الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الحرب الروسية مع الغرب على الجبهتين السوريّة والأوكرانيّة

الحرب الروسية مع الغرب على الجبهتين السوريّة والأوكرانيّة

01.02.2014
جهاد الزين


النهار
الخميس 30/1/2014
كان الأديب الروسي ألكسندر سولجنتسين يقول إن "الأمة الروسية" وُلِدتْ في كييف (عاصمة أوكرانيا الحالية). فاجَأَ المبدعُ الروسيُّ الحائز على جائزة نوبل عام 1970 الغربيّين ولا سيّما الأوروبيّين بهذا الموقف "الوطني" الروسي وهو المنشق الشهير والشجاع عن الاتحاد السوفياتي الذي أمضى 20 عاما بين 1974 و1994 في الغرب بسبب عدائه لـ"التوتاليتارية".
أدلى سولجنتسين بهذا الموقف في مقالٍ شهيرٍ وكان لا يزال في بداية عودته من المنفى عام 1994 بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. أثار المقال ضجة كبيرة ضدّه في الغرب بلغت حدَّ اتهامِه بـِ"العداء للسامية" كروسي بعدما كان لحوالى ثلاثة عقود أحد الأسماء الروسية "المدلّلة" في الإعلام والثقافة الغربيّين.
أوكرانيا هي في قلب الوعي القومي الروسي كما في "قلب" الجيوبوليتيك الروسي. وقد قرأتُ مؤخّرا لجورج فريدمان (مدير مؤسّسة "ستراتفور") وعلى ذمّته أن إسم "أوكرانيا" نفسه في اللغة الأوكرانية يعني "الحد"... بمعنى الحدود والطرف. إذن هي دولة "حد" داخلي بالنسبة لروسيا. وهي مدخل إلى موسكو بالنسبة لأوروبا أي دولة "حد" خارجي. إنها بوّابة روسيا.
الديبلوماسيّون الروس الذين يُتاح للمراقب لقاؤهم خارج لبنان أو داخله يعتبرون أنه في العمق لا فارق بين الحسابات الأميركية والأوروبية ضد روسيا في المواجهة الدائرة في أوكرانيا اليوم حتى لو كانت الدينامية السياسية والاقتصادية الهجومية في كييف هي أساسا الدينامية الأوروبية. وأمس الأول قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة إلى بروكسيل التقى خلالها بمسؤولي الاتحاد الأوروبي في جو وصفته "نيويورك تايمز" بأنه "بارد" إلى حد مخالفة التقاليد الديبلوماسية. السبب طبعا الموضوع الأوكراني الذي يبدو فيه الروس في وضع دفاعي لا فقط بسبب زخم المعارضة ضد حليفهم الرئيس الأوكراني وإنما أساسا كما يعترف مراقبون روس بسبب حقيقة انشداد أكثرية أوكرانية ولاسيما النخب الفاعلة إلى "إغراء" الارتباط بأوروبا مقابل الارتباط بروسيا. هذا الارتباط الذي لا تفرضه عوامل الجيوبوليتيك والإرث الأرثوذكسي الأكثري (مقابل أقلية كاثوليكية) فحسب بل مصالح الدعم الاقتصادي الضخمة والتي قال عنها الرئيس بوتين أنها بلغت 15 مليار دولار "نريد أن نعرف كيف ستُنفَق".
لكن الكلمة الأصرح أمس الأول قالها وزير الخارجية سيرغي لافروف: تصوّروا لو أن روسيا في ذروة أزمة مندلعة في اليونان أو قبرص، وهما عضوان كاملان في الاتحاد الأوروبي، قامت بإرسال موفدين للتدخل وإسداء النصائح فيهما! هذا ما يفعله الأوروبيون في أوكرانيا "الروسية" اليوم.
في المشهد الراهن للصراع الروسي الغربي لا شك أن هذا الصراع يدور على جبهتين في الوقت الراهن في الشمال أوكرانيا وفي الجنوب سوريا. كلتا الدولتين - المساحتين هما داخل المدى الإقليمي المباشر لروسيا. بالنسبة لأوكرانيا (كما جورجيا وأرمينيا)، كنا نعرف ذلك لكن الذي لم نكن نعرفه واكتشفناه في الأزمة السورية أن سوريا هي بنظر موسكو ضمن جوارها الاستراتيجي الإقليمي الجنوبي. بوتين كما النخبة الروسيّة المخضرمة تعلّما أن ما لم يتمكّن الغرب من فعله ديموقراطيا داخل روسيا يحاوله الآن بنجاح أكبر (بسبب الإغراء الحضاري للمشروع الأوروبي) في كييف بما فيه الدعم المالي للمنظمات غير الحكومية الشبايبة خصوصا. أنهى بوتين هذا "الفيلم" في موسكو فمنعه بقانون بينما اضطر الرئيس الأوكراني إلى التراجع أمس الأول عن قانون يحظِّر الدعم المالي الأجنبي. القانون نفسه مطبّقٌ في مصر.
في سوريا القتال على أشدِّه من ضواحي دمشق إلى "ضواحي" جنيف. موسكو الراعية لوفد النظام السوري وأميركا التي تختار توقيت انعقاد جنيف ليوافق الكونغرس فجأة على إرسال أسلحة لِـ"المعارضة المعتدلة" لا أحد يعرف إلى من فعلاً ستصل، تعلن بذلك مرّة جديدة أنها الراعية لوفد المعارضة الموضوع في العناية الفائقة لحمايته، حتى تفاوضياً، من النظام.
بصورة ما، ومع فتح جبهتين بين الجنوب والشمال على روسيا يبدو وكأن الغربيّين يعيدون أو يحاولون إعادة تطبيق المعادلة التي أدّت إلى إسقاط الاتحاد السوفياتي وهي فتح جبهتين ضد موسكو في آنٍ واحد عام 1980: في بولونيا وأفغانستان. في بولونيا جرى استنفار قوى عميقة دينية مسيحية وليبرالية مدعومة بنخب كاثوليكية ويهودية وفي أفغانستان تحرّك المارد الديني الإسلامي الذي كانت قد أيقظته أصلا الثورة الإيرانية.
اليوم معركة على جبهتين مع فارق ما آلت إليه الجغرافيا السياسيّة. الاتحاد السوفياتي كان دولة عالميّةً عظمى، روسيا الحالية هي دولة إقليمية عظمى مع نفوذ دولي يكفيها لاستخدامه في الدفاع عن أقاليمها الممتدة من بحر البلطيق إلى بحر اليابان. المختلف راهنا أنها تخوض معركة الروسية الأرثوذكسية في أوروبا الشرقية والقوقاز ومعركة مواجهة الإسلام السنّي الراديكالي في القوقاز بل داخل روسيا والشرق الأوسط الآسيوي بصورة خاصة وقلبه سوريا. أحد الفوارق المهمة أن الفاتيكان كان ضدها بل رأس الحربة ضدها على الجبهة الأوروبية عام 1980 وربما لا يزال على هذه الجبهة بينما أصبح حليفَها الأكيد على الجبهة السورية العربية.
طبّق الغربُ مرّتين في الثلاثين عاما ونيف الأخيرة بقيادة أميركية معادلة أن روسيا لا تُهاجَم بفعالية إلا على جبهتين معاً شمالية وجنوبية، بولونيا وأفغانستان في المرة الأولى وأوكرانيا وسوريا في المرة الثانية. وبذلك لقّن "الأميركيّون" الأوروبيين درسا في ما فشل فيه أجدادُهم وخصوصا "جدُّهم" نابوليون بونابرت وبعده بأكثر من مائة عام أدولف هتلر وهو أن روسيا لا تُهاجَم من جهة واحدة كما فعل "المجنون" الفرنسي العظيم بونابرت و"المجنون" الألماني الكوارثي هتلر. لأن كليهما اقتحم روسيا على جهة واحدة من الغرب فهزمهما القيصر ثم ستالين بالتراجع إلى أعماق الجغرافيا الروسية الشاسعة حتى أُنْهِكتْ جيوشُ بونابرت وهتلر وتحطّمت على خط واحد. بينما في النصف الثاني من القرن العشرين أُنْهِكَتْ القوات الروسية بل أُنهِكَ الاتحاد السوفياتي بين فكّي الكماشة البولوني الأفغاني ذَوَيْ الزخمِ الدينيِّ الجارف.
اليوم أيضا بدا الرئيس بوتين وقد استوعب الهزيمة السوفياتية منذ سنوات. فهو يقاتل بالاقتصاد والديبلوماسية والتحالفات الفعّالة ويحقّق نجاحاتٍ ملموسة وإن كان الصراع طويلا ومفتوحا. هو بات يقود الوطنية الروسية المستندة عميقا إلى شرعية الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة ويتحالف مع الصين بثباتٍ عكْسَ المرحلة السوفياتية الأخيرة ويتحالف مع قوى "الإسلام الشيعي" ضد قوى "الإسلام السني" ويستفيد بفعالية من الثروة النفطية والغازية الروسية الضخمة ويمدّ يده إلى القوى المتضرّرة من الهجوم الأصولي في العالم المسلم والعالم كالهند و"يحاصِر" تركيا العائدة مع رجب طيِّب أردوغان بمشاريع وذكريات عثمانية ضد روسيّة... يحاصرها بـ"صداقة" المصالح النفطية والاستثمارية والتجاريّة الضخمة.
وها جميعنا في المعمعة...