الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الحرب العالمية الأولى موجز ألماني لما لا ينبغي فعله

الحرب العالمية الأولى موجز ألماني لما لا ينبغي فعله

08.05.2014
ستيفان سبيشير


الحياة
الاربعاء 7/5/2014
يتعاظم اهتمام الألمان بالحرب العالمية الأولى، وتتقدم هذه الحربُ الحربَ الثانية، التي احتلت الصدارة وقتاً طويلاً لأسباب مفهومة. وحمل الألمان مؤتمري يالطا وبوتسدام على جواب عن 1914. وبدا أن عالم أوروبا ما قبل الحرب تبدد سياسياً وانصرم إلى غير عودة. وفي 1919، صادف مرور ستيفِن زفايغ بمحطة قطارات فيلدكيرش حين كان شارل دي هابسبورغ يهم بالسفر إلى المنفى السويسري. وتعرَّف الكاتب إلى وجه الملك المنفي وراء زجاج المقطورة: "صعقت: آخر إمبراطور نمسوي ووارث آل هابسبورغ الذين حكموا النمسا 7 قرون، يغادر مملكته".
كان هذا "عالم الأمس"، على ما وسم زفايغ سيرة حياته. ونحن لم نعد اليوم على يقين من أنه عالم الأمس الذي انقضى وطوي إلى غير رجعة، فالأنظمة الملكية تهاوت وانصرمت، لكن مسألة البلقان تجددت، وبعثت معها مسألة القوميات. والدفاع عن أوكرانيا يرتب مهمات لم تكن أوروبا تعْهدها إلى 1989.
هذا صنف الأسئلة التي يطرحها هيرفريد موْنكلير في كتاب يتناول الحرب العالمية الأولى، "الحرب العظمى. العالم بين 1914 و1918" (دار رُووهلت، 2013). ومونكلير أستاذ علوم سياسية في جامعة هوميولْت ببرلين. ويُرى أثر الاختصاص والجامعة في كتابه، فهو يعمل التفكير في علاقته بتاريخ الأعوام 1914-1918، وموقفه منها. وإذا عقد مقارنات بين هذا الماضي وبين الحاضر، التزم الدقة والحذر. وفي ضوء تعقبه تسلسل الوقائع وأحكام القائمين بأدوار راجحة فيها، يبدو لنا اليوم أن اشتراط النمسا المشاركة في التحقيق الجنائي في اغتيال ولي عهد عرشها في ساراييفو، كان من قبيل الطعن الصريح في السيادة الصربية، وتستحيل تلبيته. وينبه الكاتب إلى أن الولايات المتحدة، أو الاتحاد السوفياتي أيام سطوته، كانا اشترطا الشرط ذاته في ظروف شبيهة بظرف اغتيال الأرشيدوق النمسوي في ساراييفو. وهذا من امتيازات القوى الكبرى. وشاءت الصدف التاعسة ان تبقى مطالب النمسا التقليدية في البلقان، وهي رمت إلى توحيدها، من غير استجابة.
وينبغي التنويه بأن مونكلير لا يميل إلى النظريات الكبيرة. وهو حين يعالج مسألة أسباب الحرب ينحاز إلى رأي المؤرخ الأسترالي كريستوفر كلارك في كتابه "المروبصون" الذي يرفع عن ألمانيا شطراً كبيراً من المسؤولية، ويوزعها على قطبي الحرب. لكنه يفضل تعقّب الكيفية على التوقف عند السببية. ويستبعد فكرة "المسار الطويل" الذي يفضي لا محالة إلى الحرب ويضعفها. ففي 1914 كانت العلاقات الالمانية- البريطانية والألمانية- الفرنسية خالية من الحدة والتوتر، والرأي السائد يومها أن النظام الرأسمالي والتعاون الاقتصادي يوثّقان روابط السلم ويكبحان النازع إلى الحرب. ولم يقتصر هذا الرأي على الليبراليين، فشاطرهم إياه كارل كاوتسكي، الوجه الاشتراكي– الديموقراطي الألماني البارز. وعلى رغم تكذيب الوقائع والحوادث هذا الرأي، فهو ليس من غير مسوغ، فالحرب عاكست مصالح رأس المال، غير أن هذه المصالح لم تغلب على السياسة غلبة قاطعة، على خلاف ظن سائد. وحمَّل جوزيف شومبيتِر، في 1918، الإمبريالية ونازعها التوسعي المسؤولية عن الحرب.
ويحسب المؤرخون ان الصدفة تنتهك التعليل التاريخي. والحقيقة أن نجاح اغتيال فرنسوا– فردينان، ولي عهد الإمبراطور النمسوي، لم يكن مرجحاً. ويدين مونكلير نازع المؤرخين إلى حمل تسلسل الحوادث على الحتمية والضرورة، ويقول إن النظرية التي ترجع الحرب إلى جذور بعيدة وعميقة "فرضتها دواع نفسية فوق الدواعي العلمية"، فالتسلسل الضروري أو الحتمي يميل إلى الجبرية ويضعف شعور أصحاب القرار بالمسؤولية. وانتفاء الشعور بالمسؤولية، أو بالاحرى انتفاء شجاعة تحمل المسؤولية، هو العامل الأول في شقاء ألمانيا وتعاستها، على ما يرى مونكلير. ولاحظ ماكس فيبير من قبلُ أن بيسمارك خلف شعباً غير مكتمل النضوج.
والإقرار بدور الصدفة لا يدعو المؤرخ إلى المبالغة في احتساب هذا الدور. فمنذ عزل بيسمارك، في 1890، غلب الضعف على السياسة الألمانية، وعلى الإمبراطورية الجديدة. وجبن المستشارون اللاحقون عن معارضة العسكريين وكبح جماحهم. ومن القرائن على هذا الجبن تبني خطة شليفين الهجومية على بلجيكا، ومماشاة حرب الغواصات وجموحها إلى الأقاصي. والأمران فرضهما المخططون العسكريون على السياسيين. وكتب كورت ريزلير، سكرتير المستشار بيثمان هولفيغ، في يومياته (كانون الثاني- يناير 1917)، يعلق على قرار شن حرب الغواصات: "القرار قفزة في المجهول (...) وإذا اقتفى التاريخ إثر المأساة، فلن يسع ألمانيا وهي تلقي بنفسها في دوامة حرب الغواصات المدمرة ملخص أخطائها المأسوية إلى اليوم، إلا اللهاث وراء الخسارة المحققة".
ويعزّو وطأة الحال أن عدداً من كبار المسؤولين والقادة الألمان تنبهوا إلى حقيقة الوقائع الحربية الالمانية ("الأخطاء المأسوية"). ومن المسؤولين بيثمان هولفيغ وفالكينهاين، رئيس هيئة الأركان من أيلول (ٍسبتمبر) 1914 إلى آب (أغسطس) 1916، إلى آخرين: فالنمسا حليف ضعيف، والوضع الجغرافي السياسي يميل إلى التردي الشديد والسريع، وعلى ألمانيا في هذه الحال حزم أمرها، وقبول المفاوضة على سلم لا ينزل على كل شروطها. والمسؤولية عن إحجام ألمانيا لا تقع على عاتق العسكريين، فشطر من المسؤولية يتحمّله رأي عام محموم ومستميت.
وتصدرت ألمانيا، بين البلدان المحاربة سابقاً الحماسة الحربية والدعوة إلى شن الحرب والمبادرة اليها، ففيها طبع أكبر عدد من الكتب التي يحرض أصحابها على الخوض في الحرب. ويعلل مونكلير الأمر بافتقار ألمانيا إلى أهداف حربية واضحة ومقنعة. فما الذي أراد الألمان بلوغه من طريق شن الحرب؟ وعلى خلاف ألمانيا، وسع فرنسا وروسيا والنمسا وهنغاريا إعلان أهداف دقيقة. أما الإمبراطورية الألمانية فقصارى مطالبها ربما كسر الطوق الذي حسبت أنه مضروب عليها. والافتقار إلى أهداف دقيقة وواقعية سوغ إطلاق الكتاب والمثقفين العنان لمخيلاتهم وأحلامهم الرعناء. وتعاظمت المطامع الاقليمية طرداً في موازاة تعاظم الخسائر البشرية، وزيادة عدد القتلى. وأوجب الجمهور ألا يذهب القتلى سدى ومن غير طائل. وأظهرت المناقشات العلنية لمسألة الأهداف المتطرفة والمفرطة بالواهمة. وأن قلة قليلة رضيت بمقايضة الانتصارات العسكرية التي حازها الألمان، وهم حازوا انتصارات حقيقية، بسلم متين وقوي. وحين تصدعت الجبهة في 1918 وانهارت، استفاقت ألمانيا من سبات عميق. وفي الجبهة المقابلة، يقتضي الإنصاف القول ان دول التحالف لم تحمل السلم الناجم عن المساومة على محمل الجد.
وأصاب مناقشة حرب الغواصات ما أصاب مناقشة أهداف الحرب. وأدلى مثقفون برأيهم في المسألة، وبعضهم ذروة في اختصاصهم شأن فيلاموفيتز- موليندورف، أحد كبار علم اللغويات التاريخية. وأحجم خبراء البحرية وحرسها عن الخوض في المسألة. وجعل المثقفون مسألة تقنية تتناول تقويم الاخطار مسألة مزاج وهوى، فدعوا ألمانيا إلى الإعراب عن تصميمها وعزيمتها من غير لبس. وأعملوا مقولات حقولهم الدراسية، مثل "النية" و "المعنى" و "الارادة المجردة"، في موضوع يقتضي أولاً إعمال حساب الجدوى قياساً إلى الأكلاف. ومال أصحاب الرأي المفترضون إلى ما يخلب الأذهان، وابتعدوا من الحذر والأناة في تقويم الوقائع والضرورات.
وأظهرت الحرب العالمية الأولى قوة الرأي العام الذي تحلل من الكوابح، وجمح إلى أقاصي المبالغة. وحرره الافتقار إلى أهداف مقوَّمة الأثمان من الاعتدال والموازنة. وصورت له الخسائر الكبيرة توقع انقلاب "وجودي" لا يوصف، يطاول كيانه ومشاعره وأحواله من غير أن يعلم كيف ومن أي طريق. ولم يقتصر التوقع على ألمانيا، فهو أصاب كذلك بريطانيا. واختصت ألمانيا بحلم "اشتراكية الخنادق"، فانتظر المقاتلون دوام المؤاخاة التي اختبروها وهم يقاتلون ويغرقون في الوحول والتعاسة. وتوسلت النازية بهذا الاختبار، واستثمرته في دعوتها إلى أمة متكاتفة ومتآخية على رغم الحواجز الطبقية.
وتاريخ مونكلير ألماني في المرتبة الأولى، وهو تأريخ سياسي وعسكري، يقدم هذا الوجه المزدوج والمتصل على المشاغل الاجتماعية والاقتصادية. ويتناول تحليله المسائل التي لا تنفك تتجدد وتتفاقم وتفضي إلى الانفجار، من غير حلول ناجعة. والحرب الأولى منجم مشكلات وسياسات من هذا الصنف، فهي موجز كل ما لا ينبغي فعله.
* مؤرخ وصحافي، عن "داي سودوتشه زايتونغ" الألمانية، 9/12/2013، إعداد م. ن.