الرئيسة \  تقارير  \  الحرب في أوكرانيا: العالم يتأقلم مع واقع جديد

الحرب في أوكرانيا: العالم يتأقلم مع واقع جديد

23.05.2022
ليونيد برشيدسكي


ليونيد بيرشيدسكي
الشرق الاوسط
الاحد 22/5/2022
أحد أكثر الأشياء لفتاً للنظر حول الحرب الروسية - الأوكرانية لسنة 2022، هو تنوع النتائج التي يمكن أن يُعلن كلا الجانبين أنها انتصار - وندرة النتائج التي يمكن أن تدوم. وما يُحدد مدى نجاح أي إعلان هو جمهوره المستهدف.
لكن المهم في العالم الحقيقي هو ما إذا كانت النتيجة تؤسس لتوازن القوى والمصالح بين الأطراف المتصارعة على نحو يجعل مزيداً من الصراع المسلح بلا معنى، أو حتى مستحيلاً.
الواقع أن الأهداف المعلنة للجانبين في الحرب كانت طموحة نسبياً، حتى بعد أن بدا الأمر كأن روسيا تخفض من حجم أهدافها. وتتضمن رؤية الرئيس الأوكراني زيلينسكي للانتصار عودة القرم ودونيتسك ولوهانسك إلى أوكرانيا.
وتهدف روسيا إلى توسيع سيطرتها على الأراضي الأوكرانية لتشمل مناطق دونيتسك ولوهانسك في الشرق، وأجزاء من ساحل البحر الأسود الأوكراني في الجنوب وتحويل أوكرانيا إلى دولة قارية. بل وربما يطالب البعض بضم الأراضي التي تم ضمها إلى روسيا بدلاً من إقامة دول حليفة غير مُعترف بها.
لكن هذا لا يعني أن كلا الجانبين يفتقر إلى خيارات “النصر” بينهما ـ أو أن العنف سوف ينتهي على المدى البعيد، حتى لو حقق أحد الجانبين هدفه الأقصى خلال الشهور المقبلة.
بالنسبة لأوكرانيا، فإن انسحاب روسيا إلى خطوط الاتصال التي كانت قائمة قبل 24 فبراير (شباط) سوف يمثل نصراً واضحاً، على الأقل في نظر العالم. حتى إن زيلينسكي قد يكون قادراً على الترويج لها محلياً كحل وسط من شأنه أن ينقذ أرواح الأوكرانيين، ويعيد الوضع الراهن الذي أصبحت فيه أوكرانيا معتادة عليه بصفة عامة، حتى ولو أقدم الناخبون الغاضبون من جرائم الحرب الروسية على الإذعان. ويعارض أكثر من 80 في المائة من الأوكرانيين الاعتراف بأي انتصارات روسية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، ويعتقد نحو ثلاثة أرباع الأوكرانيين أن بلادهم قادرة على صد الهجوم الروسي. وهذه الأرقام لا تفضي إلى أي نوع من التسوية.
لكن حتى وإن عانت أوكرانيا من تراجع الحظوظ العسكرية، وصار الانسحاب الروسي إلى الخطوط السابقة غير واقعي، فإن أي نتيجة تحتفظ أوكرانيا بموجبها بحق الوصول إلى البحر الأسود، ورفع الحصار الروسي عن الموانئ المتبقية سوف تشكل بالفعل نصراً على الأقل من الناحية الأخلاقية، أقرب إلى النتيجة التي فازت بها فنلندا في حرب الشتاء رغم خسارتها 9 في المائة من أراضيها. أوكرانيا ستخيب آمال تغيير النظام لدى بوتين وسوف تحتفظ باستقلالها وهويتها الوطنية.
لا يمكن اعتبار أوكرانيا مهزومة إلا إذا نجح بوتين في إزاحة زيلينسكي وتنصيب حكومة عميلة في الأسابيع الأولى من الاجتياح. وبما أنه حتى الكرملين تخلى عن هذا الحلم الواهم، فإن أوكرانيا فازت بالفعل إلى حد ما.
روسيا، من جانبها، قد خسرت هذه الحرب بالفعل - فقد عصفت الحرب بسمعتها كقوة عسكرية، وشوهت صورتها العالمية على مدى عقود بسبب وحشية الجنود، وتضاءل شعورها بالأمن بسبب توسع حلف “الناتو” ليشمل فنلندا والسويد. ولا يمكن للمكاسب الإقليمية في أوكرانيا - لا سيما بالنظر إلى الدمار الذي لحق بالأراضي المحتلة - أن تعوض خسارة الأعمال التجارية الدولية، وتجميد احتياطيات المصرف المركزي الروسي.
برغم ذلك، فإن إعلان روسيا النصر أمر ممكن، إذ إنها في كل يوم تحتفظ فيه بمساحة من الأرض أكثر من تلك التي احتلتها، خصوصاً حين تسيطر على ساحل بحر آزوف بين شبه جزيرة القرم والحدود الروسية. وتكفل هذه الأرض إمدادات المياه المتواصلة، وطريقاً من البر الرئيسي الروسي إلى شبه جزيرة القرم المحتلة. ومن دون شبه الجزيرة، ومن دون مناطق دونيتسك ولوهانسك وخيرسون، فإن أراضي أوكرانيا سوف تتقلص بنسبة 18 في المائة تقريباً، وهي نسبة أكبر كثيراً، سواء من حيث القيمة المطلقة أو النسبية، مما تمكن ستالين من انتزاعه من فنلندا، وستضيف روسيا منطقة مماثلة من حيث الحجم إلى ولاية كولورادو أو نيفادا أو حتى بلغاريا.
كما يحظى بوتين بقدر أعظم كثيراً من الحرية في تمرير هذه المكاسب النسبية، باعتبارها انتصاراً للجمهور المحلي مقارنة بما يتمتع به زيلينسكي من حرية في بيع أي انتصار غير كامل لناخبيه. وقد أشار تيموثي شنايدر، الأستاذ بجامعة ييل ومؤلف كتاب “بلاد الدم” - الكتاب الذي كثيراً ما اقتبس منه آخرون عن تاريخ أوروبا الشرقية المأساوي - إلى هذه النقطة في إحدى التغريدات الأخيرة على “تويتر”.
وكتب شنايدر يقول: “إذا هُزم بوتين في الواقع فسوف يعلن انتصاره على شاشات التلفاز، وسوف يصدقه الروس أو يتظاهرون بتصديقه”. على النقيض من هذا، فإن زيلينسكي لا يستطيع ببساطة تغيير الموضوع. ويتعين عليه أن يقنع شعبه بأي قرار مهم. ويخلص شنايدر من ذلك إلى أن بوتين لا يمكن حصره في أوكرانيا، مثل الفأر الشهير من ذكريات طفولته، ولا يحتاج إلى محاولات الإنقاذ في الواقع الحقيقي أو جهود لحفظ ماء الوجه، في حين يحتاج زيلينسكي إلى المساعدة في كسب الحرب، وفي تفسير مستقبل البلاد للأوكرانيين في مرحلة ما بعد الحرب.
إن شنايدر محق، على الأقل في الأمد القريب. وتستمر الحرب لأن بوتين يبدو أنه يعتقد بإمكانية الفوز أكثر، مقابل كل ما خسره بالفعل من أجل روسيا، ولأن الأوكرانيين يعتقدون أن بإمكانهم هزيمته وطرده بأقل مما حصل، عندما هاجم في وقت سابق من هذا العام.
وإذا أمكن إقناعه بأن تحقيق مزيد من المكاسب أمر مستحيل، وإذا تمكن عامة الناس في أوكرانيا من تقبل الواقع في انسحاب روسي جزئي، فإن القتال سوف ينتهي في الوقت الحالي.
فهذا هدف يتحقق على أفضل وجه من خلال تقديم مزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا - ومن خلال الاحتفال بالانتصارات الميدانية التي تمنح الأوكرانيين كثيراً مما يجعلهم فخورين به حتى في غياب انتصار كامل ونهائي.
ومع ذلك، فإن أي نتيجة للحرب الحالية على المدى الطويل - حتى النتائج القصوى المرغوب فيها لأي من الجانبين راهناً - قد تكون غير قابلة للاستمرار بقدر ما كانت الحالة في الفترة بين 2014 و2015، التي تفاقمت لإنتاج الصراع الحالي.
وإذا توقفت روسيا عن الهجوم وتعزيز مكاسبها المتواضعة نسبياً، أو إذا تراجعت بينما حافظت على فتوحاتها السابقة في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، فسوف يستسلم الجانبان لإغراء استئناف الأعمال العدائية عند نقطة ما. فقد تغلبت أوكرانيا على صدمة الهزائم التي عانت منها على أيدي الجيش الروسي في عامي 2014 و2015. فقد ذاقت قواتها طعم النجاح في ساحة المعركة، وهي لا ترهب خصمها: إن استعادة الأراضي المفقودة هي ضمن نطاق الممكن الآن. وتنبأ كيرولو بودانوف رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية بأن البلاد سوف تستعيدهم بحلول عيد الميلاد - وإذا تبين أن هذا التنبؤ مبالغ فيه للغاية، فإن الكثيرين في أوكرانيا سيعتبرونه يستحق المحاولة في وقت لاحق. وهذا يعني أن “النصر” الروسي من دون انهيار الدولة الأوكرانية لن يكون نهائياً بحال.
 
 
* الاتفاق مع “بلومبرغ”