الرئيسة \  مشاركات  \  الحركات الإسلامية بين المراجعات والتراجعات!

الحركات الإسلامية بين المراجعات والتراجعات!

17.11.2013
فادي عبد اللطيف


الجزء الأول: قراءة للواقع

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آل بيته وصحبه، ومن ترسّم خطاه وحمل دعوته إلى يوم الدين، وبعد
نشأت منذ حوالي عقديْن ظاهرة المراجعات الفكرية والفقهية لدى عددٍ من الحركات الإسلامية، وذلك بعد ضربات شديدة تعرّضت لها من قبل أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية، أو قوات الاحتلال. وقد برزت هذه الظاهرة لدى الجماعات التي تتبنّى العمل المسلح للتغيير أو التحرير، حيث كشفت هذه المراجعات عن نقاط ضعفها في الفكر والمنهج، وهشاشة بنائها الفكري والشرعي، وأظهرت مدى نجاح الأنظمة الحاكمة في حرفها واحتوائها، وذلك من خلال سياسات البطش والقمع والحصار والعزلة، أو فتح الباب لها للمشاركة السياسية ومنحها الغطاء والشرعية تارة أخرى.
والحقيقة أن مراجعة الفكر والمنهج هي بحدّ ذاتها أمر إيجابي، ولازم ضروري للحركة الإسلامية أثناء السير في عملية التغيير، وذلك لاستدراك الأخطاء وللتثبّت من صحة فهم نصوص الشرع وأحكامه، ودقة انطباقها على واقع الأمة والمجتمع والدولة في بلاد المسلمين في هذا الزمان، حيث إن العصمة هي للنبي وحده عليه السلام، والقدسية هي فقط لنصوص الوحي في الكتاب والسنة. أما فهم النصوص وإنزالها على الوقائع الحادثة والمستجدة فقد يعتريه الخطأ، وذلك بحكم طبيعة الإنسان من حيث تأثير الميول والظروف والانفعالات في حكمه على الأشياء، وأثر تفاوت المعارف وقوة الإدراك في الاستنباط وفقه الأحكام. فالمراجعة من هذه الناحية مطلوبة، لا سيما إذا كانت تتعلق بأوضاع وتحوّلات تاريخية لم يسبق للأمة الإسلامية أن واجهتها، أو عالجتها فكرياً وتشريعياً وسياسياً، مثل مسألة تحوّل الدار من دار إسلام إلى دار كفر، والعيش في مجتمع غير إسلامي، وخصوع المسلمين لقوانين ودساتير وضعية وثقافات وفلسفات غريبة عن ثقافة المسلمين وبيئتهم وتاريخهم. ومن هنا كانت المراجعة أمراً إيجابياً وضرورياً لأنها تساعد على استدراك الأخطاء وتنقية المفاهيم وتركيزها، وتؤدي إلى وضوح الطريق، وتبعث الاطمئنان إلى استقامة المنهج، ومن شأن المراجعة النقدية الموضوعية أن تزرع في النفوس النزوع إلى الكمال من خلال البحث والتنقيب عن الحقيقة أنى كانت، والتزام الحق أينما كان، وكما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فإن "الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فإن الحق قديم".
إلا أن ظاهرة المراجعات لدى العديد من الحركات الإسلامية، مع الأسف، ليست كذلك. فهي لا تتعلق باستدراك الخطأ في الجزئيات أو تقويم السير في الفرعيات، أو التثبت من الأدلة الشرعية ومراجعة فهم النصوص واجتهادات الفقهاء، وملاحظة مدى دقة إنزال الأحكام الشرعية على الوقائع المستجدة في هذا الزمان. بل هي في حقيقتها الواضحة انقلاب تام على القواعد الأساسية التي يقوم عليها كيان الحركة، وهي: فكرتها الأساسية، والغاية التي تسعى لتحقيقها، ومنهاجها في التغيير. ولذلك كانت ظاهرة المراجعات سلبيّة وخطيرة على الأمة، وعلى الدعوة الإسلامية، وعلى العمل الحزبي (وإن كنا نسجّل لبعضها نقطة إيجابية لا تقل خطورة، وهي الانتهاء عن قتل المسلمين من مخالفين أو موظفي الشرطة والجيش). والواقع أن هذه المراجعات تمثّل نجاحاً لأنظمة الحكم القائمة في بلاد المسلمين، التي تنفّذ سياسة الاحتواء هذه المسمّاة بالمراجعات، ولدول الغرب التي ترسم هذه السياسات. وفيما يلي بعض النماذج لظاهرة المراجعات التي شهدتها المنطقة الإسلامية في السنوات الأخيرة:
أ- مصر:
1) في عام 1997م. أعلنت قيادة "الجماعة الإسلامية بمصر" عن البدء بمراجعات فكرية شاملة لمنهاجها، وأصدرت فيما بعد أربع كتب نقضت فيها، وبأدلة شرعية، أدبياتها السابقة، وبيّنت خطأ فهمها لمسائل أساسية في مقدمها الجهاد والخروج على الحاكم والتكفير والحسبة، ونظرتها العدائية للدستور والنظام المصري، ورؤيتها للمجتمع والدعوة والأقباط والمشاركة السياسية، وأكّدت على ضرورة توجيه الجهود نحو ما أسمته بـ "العدو الصهيوني" من باب نقل المعركة إلى العدو الخارجي بدلاً عن العداء الداخلي. وقد تضمنت المراجعات مواقف اعتذار للمجتمع ونبذ العنف، نتج عنها الإفراج عن آلاف المعتقلين من أعضاء الجماعة، وإعداد مشاريع لدمجهم في الحياة المدنية.
2) في عام 2007م قام قياديون في "تنظيم الجهاد في مصر" بمراجعات مماثلة، وأصدروا كتابات تتعلق بالجهاد ونبذ العنف، نتج عنها إفراج الدولة عن آلاف المعتقلين من أعضاء التنظيم.
   ومن المفارقات الجديرة بالذكر، أن واضعي مراجعات الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد هم من مؤسسي الجماعتين، وهم أنفسهم من وضع سابقاً كتباً تحمل في مضمونها نقيض ما تحمله مراجعات اليوم.
ب- الجزائر: وفي عام 1997م عقد جيش الجبهة الإسلامية للإنقاذ مصالحة مع النظام الجزائري، وحينما أعلن رئيس الجمهورية بوتفليقة مشروعه للمصالحة، المسمّى بـ (الوئام المدني)، أبدت الجبهة تجاوباً مشروطاً، وأعلن بعدها قادة في الجبهة عن ضرورة إجراء مراجعات، كما أعلنوا مواقف تتعلق بنبذ العنف وحلّ جيش الجبهة والمشاركة السياسية، ونتج عن ذلك إصدار الدولة عفواً عن الملاحقين وعودة المنفيين من الخارج، والإفراج عن العديد من المعتقلين من السجون مع تعهّد الدولة بتقديم مشاريع لدمجهم في الحياة المدنية.
ج- ليبيا: وفي عام 2009م. أعلنت "الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا" عن إصدارها لمراجعات تتعلق بمسائل كالجهاد والخروج على الحاكم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحسبة، وذلك بعد قبولها لمبادرة المصالحة التي أطلقها حينها ابن العقيد الليبي سيف الإسلام القذافي، وذلك بعد مفاوضات بين الطرفين بدأت عام 2007م. ومن المفارقات هنا أيضا، أن واضعي مراجعات الجماعة الإسلامية المقاتلة هم من قادة الجماعة، وهم أنفسهم من كتب قبلها أبحاثاً تحمل عكس مضامين ما تحمله دراسات اليوم.
د- فلسطين: وفي عام 2006م دخلت "حركة حماس" الانتخابات التشريعية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وشكلت حكومة على أساس (اتفاقية أوسلو)، والتي كانت تعتبرها خيانية وباطلة. ثم أعلنت عام 2007م عن هدنة مع الكيان اليهودي. وتوالت بعد ذلك تصريحات قادتها بقبول "دولة فلسطينية في حدود 1967م"، و "التعامل مع إسرائيل كأمر واقع"، وأن "لا سلام دون حماس...". وفي لقاء مع صحيفة نيويورك تايمز (في أيار/مايو 2009م) صرح خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي للحركة، بالقول: "إنّ ميثاق حركة حماس، الذي يدعو إلى إزالة إسرائيل عبر الجهاد، يعود تاريخه إلى عشرين عاماً، وإنّ التجارب هي التي تحدد سياستنا". وفي مقابلة صحفية (10/1/2007م) صرح مشعل: "إن تغيير ميثاق حماس الذي يدعو لتدمير إسرائيل مسألة تنتمي إلى المستقبل"، وأضاف:  "المستقبل البعيد له ظروفه والناس تحدّد المواقف في ذلك الوقت .."!
هـ- المغرب: وفي عام 2011م أعلن شيوخ "السلفية الجهادية" بالمغرب عن مراجعات "تصحيحية"، تراجعوا فيها عن تحريم المشاركة السياسية ومعاداة الديمقراطية والدستور، وأعلنوا الاعتراف بالملك محمد السادس سلطة سياسية ودينية، والعمل في إطار دستور البلاد. وقد أعلن أحد زعماء السلفية عن مراجعاته بمبادرة حملت عنوان "المناصحة والمصالحة"، حيث أشاد بالإصلاحات الدستورية التي اقترحها الملك، داعيا إلى "الرقي بالثوابت الوطنية إلى مستوى المواطنة الخلاقة والفاعلة". بينما أصدر أحد شيوخ السلفية وثيقة تحت عنوان "أنصفونا"، أعلن فيها صراحة اعترافه بالنظام الملكي ورفض ممارسة العنف. كما وجه أبرز قادتهم رسالة إلى الملك يعلن فيها "الاستعداد الفعلي للانخراط في مشروع الإصلاح العظيم" الذي شرعه ملك المغرب!