الرئيسة \  مشاركات  \  الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها

الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها

15.08.2013
د. محمد أحمد الزعبي



مدخل :
عنوان هذه المقالة ، هو العنوان الفرعي لكتاب الفيلسوف الفرنسي الكبير روجيه غارودي Rouge Garodi ( حفارو القبور) ، والذي صدر عام 1992 بمناسبة مرور 500 عام على احتلال الغرب / اكتشاف الغرب للأمريكتين ، والذي صدرت طبعته الأولى مترجمة إلى اللغة العربية عام 1999، عن دار الشروق في القاهرة .
إن اتفاقي مع المرحوم غارودي بمعظم آرائه الفكرية والسياسية ، ولا سيما فيما يخص العلاقة الجدلية في عملية التطورالاجتماعي والتكنولوجي ، بين أوروبا وأمريكا من جهة ، والبلدان النامية (العالم الثالث) من جهة أخرى ، هو ماحدى بي إلى وضع الأفكار الأساسية لهذا الكتاب الهام ، بين يدي القارئ العربي ، ولاسيما في بلدان مابات معروفاً بـ " الربيع العربي " ، فلعل في أفكارهذا الفيلسوف الفرنسي ( الغربي ) الماركسي والمسلم ، مايمثل " الدومري" الذي يمكن أن يوقظنا من سباتنا الطويل ، على قاعدة " وشهد شاهد من أهلها " على نفسه .
 
1. يرى غارودي ـ ولست متأكد هنا من مدى صحة وجهة نظره ، ولا سيما بعد غزو بوش الإبن للعراق عام 2003 ـ أن صدام حسين قد ارتكب خطأً بالرد على الحرب الإقتصادية التي ارتكبت ضد بلاده ، بالغزو العسكري للكويت ، لأنه قد أعطى لأمريكا الذريعة التي كانت تنتظرها منذ نصف قرن ( أي منذ محاولة مصدق تأميم البترول الإيراني ) ، حيث أصبح ممكناً إطلاق تعبير " الدفاع عن حقوق دولية " على ماحقيقته الحفاظ على الوضع الاستعماري الراهن ، ويستطرد غارودي قائلاً ، إن " الدفاع عن الحق لايمكن أن يكون انتقائياً ، لايمكن تطبيقه بعناد في حالة ضم الكويت ونسيان ضم القدس ، صحيح إن القدس ليست سوى مدينة
مقدسة ، لكن الكويت مقدسة ألف مرة بما أنها محاطة بآبار البترول " ( ص15) .
ويرى غارودي أن عملية " تحرير الكويت " لم تكن سوى ذريعة ، أصبحت جلية بعد إعادة الأسرة الحاكمة إلى العرش في الكويت ، حيث أعلن الرئيس بوش بعدها بصراحة في الأمم المتحدة ، ضرورة الإبقاء على الحظر حتى يترك صدام حسين السلطة ، ويعتبر هذا الحظر ( الحصار ) بنظر غارودي ، اعتراف واضح من إحدى الدول، أنها ستجوع شعباً حتى يأتي بحكومة توافق هي عليها !( ص 45 ) .
 ويستشهد غارودي على " جرائم الولايات المتحدة والغرب عامة " ، باعتراف الأمم المتحدة ، بان حرب 1991 قد أرجعت العراق إلى عصر ماقبل الصناعة ، وأن أمريكا قد ألقت على بغداد حتى اليم الرابع من الحرب 60000 طن من المتفجرات ، وهو مايعادل خمس مرات ماألقوه على هيروشيما ( 16 ) .
 
2. وفي رؤيته للإشكالية التنموية في بلدان العالم الثالث ، يربط غارودي ربطاً جدلياً بين تخلف البلدان النامية وتطور/ تقدم البلدان الرأسمالية الغربية ( أوروبا وأمريكا ) ،من حيث أن خمسة قرون من الإستعمار ، هي التي أدت إلى نهب ثروات ثلاث قارات ( آسيا ، أفريقيا ، أمريكا اللاتينية ) ، وإلى تدمير اقتصادياتها ، وتكبيلها بالديون. ويستشهد غارودي على صحة تلك الرؤية، بما كتبه السفير المقيم في مورشيد أباد (الهند ) عام 1769 ، " إن هذا البلد الجميل الذي كان مزدهراً في ظل أكثر الحكومات استبداداً وتعسفاً ، أصبح على شفا الخراب منذ اشترك الإنجليز في إدارته "( ص19) . وقد تمثل هذا الخراب ـ حسب غارودي ـ بالمجاعة
التي ادت إلى وفاة مليون شخص فيما بين عامي 1800 و 1875 ، وإلى وفاة 15 مليون شخص فيما بين عامي 1875 و 1900 ( ص 20 ) ، وأيضاً بهيمنة رؤوس الأموال الأجنبية في المرحلة الإستقلالية (بعد 1947 ) على : 97% من البترول ، 93% من الكاوتشوك ، 62% من الفحم ، 73% من مناجم الحديد ...الخ
( ص21 ) .
 
3. بالنسبة لمن يحاول أن يرى حقيقة العالم ، ليس من خلال صورته في التلفزيون ووسائل الإعلام ، نقول هناك حريقان مشتعلان :
3.1 ، التبادل غير المتكافئ بين الشمال والجنوب ، بين اقتصاديات مدمرة كلّياً بفعل قرون من النهب
والاستعمار، واقتصاديات مشبعة ومتخمة بما نهبته. إن حرية السوق هي حرية الأقوياء في افتراس الضعفاء
، والدليل الأكثر سطوعاً هو ، التدهور الدائم في التبادل التجاري ( ص31 ) : ففي عام 1954 كان يكفي لمواطن برازيلي أن يملك 14 كيساً من البن لكي يشتري سيارة جيب من الولايات المتحدة الأمريكية ، وفي عام 1962 كان يلزم نفس المواطن 39 كيساً ، وفي عام 1964 كان يمكن لمواطن في جاميكا أن يشتري جراراً أمريكيّاً مقابل 680 طن سكر ، وفي عام 1968 كان يلزمه 3500 طن . إن الدول الفقيرة مستمرة في مساعدة الدول الثرية !! ، وإن فوائد الدين تمثل في كثير من الأحيان نفس قيمة أصل الدين ، وتساوي مجمل الصادرات ، مما يجعل أية " تنمية " في مثل هذه البلدان مستحيلة . ( التوكيد هو مني م ز ) ( ص31 ) ،
 
3.2 ، دور كل من صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي في تخريب نصف الكرة الأرضية الجنوبي ، عبر
مايسمى " برامج الإصلاح " والتي تتكون غالباً من العناصر التالية :
ـ خفض سعر العملة المحلية بحجة تشجيع الصادرات وخفض الواردات ،
ـ خفض اعتمادات التعليم والصحة والإسكان ، وإلغاء " الدعم الحكومي " لبعض السلع الغذائية الحاجية ،
ـ خصخصة الشركات العامة ، أو رفع أسعارها ( الكهرباء ، الماء ، المواصلات ...الخ ) ،
ـ إلغاء التحكم بالأسعار ،
ـ زيادة الضرائب ومعدلات الفائدة ،
هذا مع العلم ان مثل هذه " الليبرالية ! " هي أفيد للدول الراسمالية من الاحتلال العسكري ، أو الديكتاتوريات العسكرية في ابتزاز ونهب البلدان النامية . ( 33 ) ، وفي استئثارهذه الدول الرأسمالية بكل من الثروة والسلطة في البلدان النامية . ويشير غارودي ، إلى أن العلاقة بين هذه " اليبرالية المتوحشة " ( والتعبير لغارودي ) والعالم الثالث ، تذكره ، بنظرية الثعلب الحر داخل حظيرة الدجاج الحر !! ( 57 ) .
 
4. وفي انتقال غارودي من العام ( النظام الرأسمالي العالمي ) ، إلى الخاص ( الولايات المتحدة الأمريكية )
أعاد توكيده ، على أن حرب الخليج، قد كرست هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم ( 36 ) حيث أصبحت الساحة بعد تدمير العراق خالية من أجل انتشار جديد دائم لـ " المجموعة العسكرية الصناعية الأمريكية " في الشرقين الأدنى والأوسط ( السعودية ، الكويت ، الإمارات ) ( 37 )، وأصبحت صناعة السلاح في الولايات المتحدة تعيش عصرها الذهبي ، وأصبح الحق الدولي الوحيد هو" حق الأقوى" (40).
 
5. نشرت مجلة كيفونيم / اتجاهات ( وهي مجلة المنظمة الصهيونية الدولية في القدس ) في عددها رقم 14 فبراير 1982 مقالة عن " خطط إسرائيل الاستراتيجية في عقد الثمانينات " ، وسنقتطف بعضاً مما أورده غارودي من هذه المقالة الخطيرة ، والتي تفسر كثيراً مما يجري الآن في بعض الأقطار العربية :
ـ لقد غدت مصر باعتبارها كياناً مركزياً، مجرد جثة هامدة ... وينبغي أن يكون تقسيم مصر إلى دويلات
 منفصلة جغرافياً هو هدفنا السياسي على الجبهة الغربية خلال سنوات التسعينات ،
ـ وبمجرد أن تتفكك مصر وتتلاشى سلطتها المركزية ، فسوف تتفكك بالمثل بلدان أخرى ، مثل ليبيا
 والسودان وغيرهما من البلدان الأبعد ،
ـ وتعد تجزئة لبنان إلى خمس دويلات ... بمثابة نموذج لما سيحدث في العالم العربي بأسره ، (ص 41)
ـ وينبغي ان يكون تقسيم كل من العراق وسورية إلى مناطق منفصلة على أساس عرقي او ديني أحد
 الأهداف الأساسية لإسرائيل على المدى البعيد ، والخطوة الأولى لتحقيق هذا الهدف هو تحطيم القدرة
 العسكرية لهذين البلدين .
ـ فالبناء العرقي لسورية يجعلها عرضة للتفكك ،مما قد يؤدي إلى ، قيام دولة شيعية على طول
 الساحل ، ودولة سنية في منطقة حلب ، وأخرى في دمشق ، بالإضافة إلى كيان درزي قد ينشا في
 الجولان الخاضعة لنا ، وقد يطمع هو الآخر إلى تشكيل دولة خاصة ، ولن يكون ذلك على أي حال إلاّ إذا
 انضمت إليه منطقتا حوران وشمال الأردن ، ويمكن لمثل هذه الدولة على المدى البعيد أن تكون ضمانة
 للسلام والأمن في المنطقة ، وتحقيق هذا الهدف في متناول يدنا ،
ـ أما العراق ، ذلك البلد الغني بموارده النفطية ... فهو يقع على خط المواجهة مع إسرائيل ، ويعتبر تفكيكه
 أمراً مهماً بالنسبة لإسرائيل ، بل إنه أكثر أهمية من تفكيك سورية ، لأن العراق يمثل على المدى القريب
 أخطر تهديد لإسرائيل ( ص 41/ 42 ) .
ــ انتهى القسم الأول ــ