الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الحقيقة "تغتال" الممانعة

الحقيقة "تغتال" الممانعة

20.01.2014
يوسف بزي


المستقبل
الاحد 19/1/2014
لم يمض بعد عام 2005. وقائع يوم 14 شباط من ذاك العام ما زالت حاضرة في كل يوم لبناني تلاه، طوال تسع سنوات. لم تنقض بعد تلك الحادثة. إنها تستعاد كلحظة ممتدة لا يطويها ماض ولا حاضر. إنها ذكرى لا تنصرم ولا يلامسها نسيان. إنها حدث مستمر لا يأفل ولا يخفت. حدث يأسر تاريخاً، ويفتتح مستقبلاً مفارقاً.
يوم الخميس الماضي، ولأول مرة في تاريخ المشرق العربي، يبدأ سرد الرواية وكتابتها. آلاف السيارات المفخخة، آلاف عمليات الإغتيال، ضحايا لا عدّ لهم، مجرمون لا عدّ لهم. مآس ونكبات وآلام ودموع ولوعات، وشر وإجرام ودناءات ومذابح وأهوال، خراب ونيران حارقة ومؤامرات وقتل يومي وعذابات، بلاد وشعوب مرصودة للجحيم والظلام والبؤس واليأس والعنف. زمن مديد من الوحشية وأعمال الإرهاب من دون محاسبة ومن دون حقيقة. وكل ما حدث من ويلات كان ينسب إلى مجهول، إلى غيب، إلى ميتافيزيق، إلى قدر لا راد له.
على الكتمان، وعلى التسليم بالغيب والقدر، وعلى الرضوخ للمجهول، وعلى تجهيل الفاعل، بل وعلى تبرير كل جريمة، استوى تاريخ المشرق العربي بوصفه تاريخاً من عنف لا خلاص منه، وبوصفه هو السياسة كلها، هو الحقيقة الأخيرة.
منظومة الشر التي تهيمن على هذا المشرق، منظومة "الممانعة"، الموغلة في أيديولوجيا الدم والقتل، تقوم على أن السياسة سر وميتافيزيق وغيب، وأن النسيان والغفل والكتمان هو المتاح الوحيد للناس. أن يصمتوا ويسلموا ويخضعوا لـ"الأشباح" الذين يقتلون ويفجرون ويخطفون... أن يقنعوا أن الشر الذي يصيبهم ليس سوى ثمن زهيد يدفعونه من أجل انتصارات إلهية على مؤامرات، هي بدورها غامضة وميتافيزيقية وخرافية.
لا تستقيم "الممانعة" إلا على مصادرة الحياة، ومنع السياسة من التداول، وطمس كل حقيقة، وحجب كل واقعة، وكتم الصوت، ووقف أي علنية. إنها خطف دائم للأنفاس، وقتل متعمد للأرواح. ولا يتم ذلك إلا بتنصيب السرية والتآمر والخفاء والكذب وطمس الحقائق وتجهيل الفعل ورده إلى ذاك القدر الغيبي. ويمكن القول إن أصل "الممانعة" هو الإيمان العميق بانتفاء العدالة واستحالتها في هذه الدنيا، وبالشر فقط، وبالعنف الدائم تؤخذ المطامع والمطالب. إيمان فوق ديني يقوم على الإنتقام من حقيقة العالم والبشر والحياة. نقمة موغلة بالحقد على العالم، بوصفه عالماً ظالماً يتوجب الإنتقام منه وتدميره وإفناء أسباب الحياة فيه.
تطمح تلك "الممانعة" إلى تثبيت الجريمة لا كوسيلة لفرض سياستها، إنما كغاية وطريقة حياة وإسلوب وحيد لاستمرار سلطتها. الجريمة في فكرها هي الرد الدائم على "فساد" السياسة وفساد العالم.
الإرهاب هنا يقترن باستمرار بفكرة ميتافيزيقة أخرى، هي الطهرانية الصافية والمطلقة التي تسم "الممانعة" نفسها بها. والجريمة، بهذا المعنى، غايتها "تطهير" العالم. ولذا تتنكب "الممانعة" مهمة القتل والعنف كضرورة ثورية، كواجب أخلاقي ديني، كمعبر إجباري للخلاص. هي الدينونة اليومية، القصاص العادل الذي ينزلونه، بتفويض إلهي، على المدن والبلدان والناس، كانتقام من الضعف البشري ومن فساد الإنسان وخطاياه. الممانعون يظنون أنفسهم أنهم جلادو الله، منفذو مشيئته. لذا هم "اشرف" الناس، وهم معصمون عن أي خطأ أو محاسبة أو مساءلة، طالما أنهم منذورون للطهارة، لتخليصنا من النجاسة التي تلازم دنيانا، ومن شرور بشريتنا.
من هذا الإيمان، تنسب "الممانعة" لنفسها حق تطهير لبنان من "الفاسدين" والمخالفين والمعارضين والمائعين والمارقين والمستلبين والخونة والعملاء والمدسوسين والكافرين والنجسين والمتشككين والملوثين وحتى الحياديين.. أي كل من ليس منهم، تماماً كما هو حق "الممانعة" بتطهير دمشق بالأسلحة الكيماوية من الخونة والمعارضين والتكفيريين والمغرر بهم. وهو حق "الممانعة" في تحويل العراق كله إلى مقابر جماعية وجحيم من سيارات وشاحنات مفخخة لتطهيره من مفاسد الحرية الأميركية والديموقرطية الغربية. الموت للجميع. الموت قتلاً واغتيالاً في شوارعهم ومكاتبهم وسياراتهم ومتاجرهم وأسرّتهم. الموت الصاعق والعنيف والمشهود لكل هؤلاء. الموت هو السياسة الأخيرة والنهائية.
يوم الخميس الماضي ابتدأ حدث لن نستوعب فاعليته إلا بعد زمن طويل، بعد أن ينتهي سرد تلك "الملحمة" السوداء، وكتابة الفصل الختامي للرواية المظلمة التي تحكي علناً، وبالتفاصيل "المملة" (كما كتبت جريدة "الأخبار" يوم الجمعة الماضي)، واحدة من أبرز جرائم الإغتيال في المشرق العربي. فلأول مرة سنسمي القاتل ونرى صورته، ونعرف كيف نفذ فعلته، وكيف خطط وحضّر ومن شاركه ومن حرّضه وأمره. سنبصر بأعيننا وجوه القتلة ونسمع بآذاننا كلمات المتآمرين. سنكتشف ونشاهد منظومة هائلة من مئات الأشخاص يؤلفون جهاز الشر الذي حكم ويحكم في أكثر من بلد بالبطش والقمع والتعذيب والإغتيال وافتعال الحروب والفتن وتأليف العصابات وتصنيع الإرهابيين وتفجير المدن.
تسع سنوات مضت، ومنذ اليوم الأول لا عمل لـ"الممانعة" سوى الإصرار على محو 14 شباط 2005 من الذاكرة، فرض النسيان والتجاهل على الحدث. وسعت لأن يكون كل اغتيال تلا تفجير موكب رفيق الحريري، تحريضاً على نسيان ما سبق، درساً تأديبياً لكل من يريد أن يتذكر.
كابوس القتلة أن 14 شباط 2005 لم يمض ولم ينقض.
المحكمة الدولية التي انطلقت، وبغض النظر عن أحكامها النهائية، هي إعلان القطيعة مع النسيان، إعلان الحقيقة العارية، كشف الحجاب عن التاريخ الفعلي وعن الوقائع. هي إعلان أن العدالة الإنسانية ممكنة في هذه المنطقة من العالم. أي أن الحياة نفسها ممكنة.
العدالة نقيض الممانعة. الحقيقة تقتل الممانعة.