الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الدبلوماسية الروسية ومحاصرة الضربة السورية

الدبلوماسية الروسية ومحاصرة الضربة السورية

18.09.2013
د. أحمد يوسف أحمد



الاتحاد
الثلاثاء 17/9/2013
في التاسع من سبتمبر في ذروة استعداد الرئيس الأميركي لتوجيه ضربة عسكرية لسوريا كعقاب رادع للنظام السوري بسبب ما يعتقد أنه استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين تقدمت روسيا بمبادرة التسوية السياسية للأزمة قبل ساعات من بدء مناقشة الكونجرس الأميركي التفويض الذي طلبه أوباما لتوجيه ضربة عسكرية لسوريا. كان واضحاً من المبادرة وما تلاها من ردود أفعال أن كافة أطراف الأزمة أصبحت مأزومة وتريد أن تخرج من الموقف الحالي دون خسائر كبيرة، ولنبدأ بالطرف الذي بادر بالمبادرة والطرف موضوع المبادرة وهو سوريا. أما روسيا فلاشك أنها استشعرت الجدية في التحرك الأميركي نحو ضرب سوريا، والنظام السوري حليف لروسيا بأحد المعاني باعتبار أنه يكاد يكون المنفذ الاستراتيجي الوحيد لروسيا في الوطن العربي والشرق الأوسط وسيكون هذا النظام معرضاً للسقوط على نحو مباشر أو غير مباشر من جراء الضربة، بالإضافة إلى الضرر الذي لاشك أنه سيصيب المكانة الروسية بسبب العجز عن حماية حليفها، ولا يبقى لها سوى تزويده بالسلاح إذا صمد للضربة وما بعدها. وفي هذا الإطار تقدمت روسيا بمبادرتها التي لم يكن مضمونها شكلياً وإنما يعكس أفكاراً جادة لاشك أنها ترضي الإدارة الأميركية أصدقاءها وحلفاءها، فالمبادرة تنص على أن يضع النظام السوري ترسانته الكيماوية تحت رقابة دولية تمهيداً للتخلص منها والانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية.
تقدمت روسيا بمبادرتها أثناء زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم الذي أعلن بعد ساعة واحدة من تقديم المبادرة أن القيادة السورية «ترحب بالمبادرة الروسية انطلاقاً من حرصها على أرواح مواطنيها وأمن بلادنا ولثقتنا بحرص القيادة الروسية على منع العدوان على بلدنا». هذا طرف ثانٍ مأزوم إلى درجة التضحية بترسانته الكيماوية التي تعد مع القدرة الصاروخية أداة الردع لإسرائيل عن أي عدوان تزمع القيام به ضد سوريا. ولكن حسابات الأولويات لابد أنها كانت صحيحة، فالضربة العسكرية قد تلحق ضرراً لا يمكن إصلاحه بالقوات المسلحة السورية وهو ما لا يعني إضعاف القدرة العسكرية للدولة فحسب وإنما يرجح في الوقت نفسه سقوط النظام في معركته مع المعارضة المسلحة: وجنباً إلى جنب مع الموافقة السورية كان من الطبيعي أن يرحب الحلفاء والأصدقاء، فأعلنت الخارجية الإيرانية ترحيبها بالاقتراح الروسي وكذلك الصين.
هذا عن المعسكر الرافض للضربة العسكرية فماذا عن معسكر الخصوم؟ سنلاحظ أن السمة العامة لردود الأفعال هي التعامل بإيجابية مع المبادرة مع الحنق الشديد، ويرجع ذلك إلى أن المبادرة تأتي بجديد جاد، ولكن سوء الظن من حسن الفطن. وبالنسبة للولايات المتحدة صرحت مصادر الخارجية الأميركية بأن واشنطن ستدرس بعمق اقتراح موسكو، وذكر مسؤول أميركي بارز أن الولايات المتحدة تعتزم المتابعة مع روسيا للتأكد من أن الخطة ذات صدقية، وصرحت ناطقة باسم الخارجية الأميركية أن واشنطن تنظر بجدية إلى الاقتراح الروسي ولكن لدينا بعض الشكوك. أما على صعيد الرئيس الأميركي نفسه فقد صرح بأن الاقتراح قد يشكل اختراقاً كبيراً وهو بالتأكيد تطور كبير، وأشار مسؤول في البيت الأبيض إلى أن أوباما اتصل هاتفياً في اليوم التالي لإعلان المبادرة بنظيره الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني واتفقوا على العمل سوياً عن كثب وبالتشاور مع روسيا والصين من أجل استطلاع صدى جدوى الاقتراح الروسي. ويعني ما سبق أن أوباما بدوره يشعر بأنه مأزوم، فهو لا يستطيع أن يتراجع عن الضربة، وفي الوقت نفسه يمكنها أن تصيب مكانته الدولية بالضرر، فضلاً عما يمكن أن تسببه من متاعب داخلية. وقد اعترف بأنه توجد ممانعة لتفويضه في الكونجرس، ولذلك فإن المبادرة الروسية بأحد المعايير تقدم له مخرجاً كريماً.
وعلى صعيد حلفاء واشنطن الأوروبيين كان المبدأ الحاكم لمواقفهم هو أيضاً التعامل بإيجابية مع الحذر، فصرح رئيس الوزراء البريطاني بأنه إذا حدث ستكون هذه خطوة كبيرة إلى الأمام ولكنه تحفظ في الوقت نفسه على ألا تكون المبادرة أسلوباً لصرف الانتباه عن المشكلة الحقيقية، وهو تحفظ غريب لأن الأصل أن المبادرة تتناول جوهر هذه المشكلة. أما وزير الخارجية الفرنسي فقد حرص على أن يشير إلى أن فرنسا طرحت بالفعل قراراً ملزماً على مجلس الأمن ينص على وضع الأسلحة الكيماوية السورية تحت الرقابة وتفكيكها ويجيز استخدام القوة في حالة عدم تطبيق الالتزامات الواردة فيه بموجب الفصل السابع. ووصفت المستشارة الألمانية الاقتراح بأنه «مثير للاهتمام» مكررة رفضها التام لأي تدخل عسكري في سوريا.
وربط الأمين العام للأمم المتحدة تأمين الأسلحة الكيماوية السورية بقرار يصدره مجلس الأمن يعكس إعادة الوفاق بين أعضائه ويحض دمشق على الموافقة الفورية على تأمين هذه الأسلحة وتسليمها وتدميرها. وحرص على أن يشير إلى أن هذا لا يعفي من المحاسبة. وعلى صعيد الجامعة العربية قرر مجلس الجامعة في اجتماعه الطارئ يوم 10 سبتمبر التعامل بإيجابية مع المبادرة معرباً عن أمله في أن تؤدي إلى تحقيق إرادة الشعب السوري وتحافظ على وحدته وسيادته، وكان الأمين العام قد أعلن تأييد المبادرة، مشيراً إلى أنها تأتي في إطار سعي الجامعة للبحث عن حل سياسي، بينما أكد نائبه السفير أحمد بن حلي على أن حل الأزمة عن طريق المبادرة لا يعفي مرتكبي جريمة قتل السوريين من العقاب.
وبعد إعلان المبادرة أعلن وزير الخارجية الروسي أنه سيبقى على اتصال دائم مع وزير الخارجية الأميركي، وأن بلاده تعمل مع الجانب السوري على إعداد خطة محددة لتنفيذ المبادرة، وأن العمل على إنجاز هذه الخطة سيجري بالتعاون مع الأمم المتحدة وأعضاء مجلس الأمن ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وكان واضحاً أنه يسعى لحشد تأييد دولي للاقتراح. وفيما بعد أعلنت الخطوط العامة لهذه الخطة وتنقسم إلى مراحل أربع: انضمام سوريا لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية- الكشف عن مقار إنتاج الأسلحة وتخريبها- فحص ترسانة الأسلحة الكيماوية -تدميرها. ويوم السبت الماضي طالبت كل من روسيا والولايات المتحدة دمشق بتقديم قائمة بأسلحتها الكيماوية في خلال أسبوع. وهكذا تقترب المبادرة الروسية أكثر فأكثر من تحقيق تسوية سياسية، وهو إنجاز للدبلوماسية الروسية ودرس لمن تعودوا الاعتماد على الآخرين في تحقيق أهدافهم.