الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الدرس المصري في الثورة السورية

الدرس المصري في الثورة السورية

12.07.2013
د. رياض نعسان أغا

الاتحاد
الجمعة 12/7/2013
ما يحدث في مصر الآن هو درس مهم ينبغي أن يفيد منه السوريون، فالتكوينات الاجتماعية متشابهة، و«إخوان» مصر أقران «إخوان» سوريا، ومدرستهم الفكرية واحدة، وكذلك العلمانيون يستقون من ينبوع فلسفي واحد، وهدف الوصول إلى الحكم لدى الجميع يتخذ ذات المسالك، وسيكتب التاريخ ساخراً من أولئك الذين كانوا يقولون «مصر غير ليبيا، وليبيا غير تونس، وسوريا غير مصر، فكلمة «غير» هذه تجاهلت أن الظروف العامة والمؤثرات الفكرية والسياسية في هذه البلدان متشابهة إن لم نقل متطابقة. وأذكر حين قامت ثورة يناير في مصر أن أحد السطحيين من المسؤولين السوريين قال: «إن ما يحدث في مصر شأن مصري خالص»، فكتبت أرد عليه في هذه الصفحة يومها، بل «هو شأن سوري بامتياز»، فقد علمنا التاريخ أن سوريا ومصر مرآتان تتماهيان، وحسبنا منه ما يعود إلى نحو ألف عام، فحين تسلم الحكم في مصر صلاح الدين الأيوبي سرعان ما حكم سوريا، وحين أرسى الظاهر بيبرس قواعد حكمه في مصر قفز ليحكم سوريا، وحين تولى مصر محمد علي باشا أرسل ابنه إبراهيم ليضم سوريا، وحتى حين حكمت ثورة ضباط يوليو مصر عام 1952 سرعان ما انضمت إليها سوريا عام 1958. وعلى الصعيد الفكري والثقافي تجد التفاعل والتماهي بين الثقافتين، وحتى الحركات السياسية هي ذاتها من «الإخوان المسلمين» والشيوعيين، ولئن تفرد السوريون عن المصريين بحزب «البعث»، والقومي السوري فإن التيار الناصري كان ذاته في البلدين. وتجربة «الإخوان» التي فشلت في مصر جديرة بأن يدرسها السوريون، بل إن تدرسها كل الحركات الإسلامية السياسية.
ومهما يكن الموقف اليوم مختلفاً بين الناس من أحداث مصر الراهنة بين مؤيد لشرعية الصندوق، وبين محتكم إلى أغلبية الشارع، فإن ثمة حقائق تجاهلها «الإخوان» ومن أبرزها نكثهم بما وعدوا به الناس يوم قامت الثورة من أنهم لن يقتربوا من سدة الحكم، وكان أقوى لهم لو أنهم اكتفوا بدخول البرلمان وتركوا سواهم يختبر عمق المياه قبل خوضها. وأما الخطأ الأشد فهو أنهم رأوا أن نصف المجتمع المصري قد انتخبهم، وتناسوا أن نصفه الآخر لم ينتخبهم، وكان أولى أن يتدارسوا وسائل وآليات تضمن لهم مهادنة من رفضهم، بدل أن يعززوا ولاء من والاهم. وكانت غلطة «الإخوان» كذلك أنهم لم يطرحوا على أنفسهم سؤالاً مهماً هو «لماذا يكرهوننا؟»، وهم يرون ملايين المصريين يعبرون عن ضيق شديد وصل حد الكراهية المطلقة لحضور «الإخوان» في سدة الحكم. وكان خطأً فادحاً أن يعتبروا ذلك مجرد تحريض من خصومهم السياسيين. فالنقلة التي أرادوا إحداثها في حياة الناس أوقعت صدمة ثقافية وحضارية لم يهضمها الجسد المصري كله، وكنت أعجب من اشتهائهم للحلول في كل مفاصل الحياة السياسية. وكانت تظاهرات المثقفين المصريين على باب وزارة الثقافة تكفي وحدها لتحقيق استجابة واعية تقدر نتائج التجاهل والعناد. وأرجو ألا يعتبر الإخوة المصريون حديثي تدخلاً في شؤونهم «على رغم إيماني بأننا في الهم عرب ومسلمون وجسد واحد»، ولكن ما يعنيني هو الحاجة الماسة إلى قراءة التجربة «الإخوانية» المصرية من قبل الماضين على ذات الطريق السياسي الديني في سوريا.
صحيح أن حركة «الإخوان» السورية لا تملك رصيداً شعبياً في سوريا، وقد تراجع تأثيرها بعد أحداث الثمانينيات، ولكن التيار الإسلامي له حضور ولاسيما في بنية الثورة الراهنة، وكان اضطراب خطاب هذا التيار قد ترك آثاراً سلبية على مسار الأحداث منذ أن ظهرت الجبهات المتشددة والمتطرفة ومعها تلك المصنوعة التي ترتدي قناع الإسلام، لتجعل المشهد مريباً في نظر أصدقاء سوريا الذين باتوا يترددون في دعم الثورة. بل إن بعض التصرفات جعلت كثيراً من الناس -وأنا منهم- يتوقفون متسائلين عن صورة المستقبل، ولاسيما بعد أن سارع بعضهم لتطبيق الشريعة على هواه في بعض القرى والأحياء، وبدأ يصدر أحكام الجلد بل أحكام الإعدام أيضاً.
لقد بدا ضرورياً أن تعترف حركات الإسلام السياسي بحاجتها إلى مراجعة فكرية تستعيد النظر في الأسس الفكرية، وسيكون خطأ كبيراً أن يفهم أحدهم أن رفض الناس لحكم «الإخوان» هو رفض للإسلام، فثمة هوة في الفهم يجب التقاطها، ولا أنكر أن بعض النخب ترفض الأديان كلها، وأن بعض العلمانيين يرون الدين للآخرة وحدها ولا يقبلون أن يدخل الحياة الدنيا إلا في المساجد والكنائس فقط، وهذا فهم مستمد من فلسفات غربية لم تنبت في بيئة عربية إسلامية. ومن الواضح أن الناس عامة يريدون الإسلام السمح المعتدل الذي يعيشونه في مجتمعاتهم، وهو يضمن حرية التعبير والتصرف والسلوك، ويشكل حصناً عقائدياً لا يستخف به أحد إلا فيما ندر، وهو قوة كامنة يخضع لها الحاكم ذاته عرفياً، ومهما اشتط بعض حكام المسلمين فإنهم يحرصون على تجنب معاداة الإسلام، وحتى نابليون حين حكم مصر اضطر إلى أن يتقرب للمسلمين ويحتفل بأعيادهم، بل إن من خلفه بعد «كليبر» سمى نفسه عبدالله جاك مينو تقرباً من المسلمين وأعلن إسلامه.
ويبدو أن غالبية المسلمين اليوم يريدون حكماً يحافظ على ثوابت الإسلام في التوجهات والمبادئ الاجتماعية العامة وفي الأحوال الشخصية، وفي الأخلاق والآداب، وفي الشعائر، ولكنهم لا يريدون أن يطبق عليهم أحد نظرية الحق الإلهي في الحكم، ويجعل نفسه مرشداً عاماً يمتلك صلاحيات الولي الفقيه، مما يتيح إنتاج استبداد ديني يحل محل الديكتاتوريات وتستبدل فيه عمامة بالقبعة العسكرية.
لقد وقعت المغالاة منذ أن ظهرت الأفكار التي تدعو إلى نظرية الحاكمية المطلقة، التي فهم أتباعها أن المرء لا يملك شيئاً من حريته الشخصية وعليه أن يسأل النصوص في كل فعل وتصرف، وأن يقبل الجواب حتى لو لم يقبله عقله، وظهرت أفكار تدعو إلى إقامة الدولة الدينية. ولا يتسع المجال هنا للخوض في هذه التفاصيل الغزيرة، ولكنني أفهم على صعيد شخصي أن الدولة في الإسلام مدنية، وأنها إدارة مختارة لشؤون الناس تحقق المقاصد والأهداف، وأن الدولة تضم المسلمين وغير المسلمين، ولكل شريعته التي يحترمها الآخرون ولا يفرضها على أحد، وأفهم أن الدولة عقد اجتماعي، وأن الدين واللغة (بوصفها ثقافة) أهم مكونات هوية الأمة، وأن العقد الاجتماعي هو مصدر قانون الحكم، وحين يجيء معبراً عن الأمة فلن يخالف هويتها.