الرئيسة \  مشاركات  \  الدكتور فرانز فانون: المفكر الأسود الذي مزَّقَ "الأقنعة البيضاء"

الدكتور فرانز فانون: المفكر الأسود الذي مزَّقَ "الأقنعة البيضاء"

09.12.2015
الدكتور عبد القادر حسين ياسين



ربّما يعرف الكثير من العرب عن نانسي عجرم وأحمد عدوية أكثر مما يعرفون عن "فرانز فانون  Frantz Fanon، وقد يظنّ البعض أنّ هذا الرجل مشهور فقط في الأوساط الفكريّة الغربيّة، غير أنّ تاريخ الرجل ونضاله الباسل ضدّ قوى الاستعمار القديم مرتبط أساسا بالعالم العربيّ، ولا أغألي إذا قلت أن هذا المناضل الكبير والطبيب العبقريّ استطاع أن يصل بأفكاره التحرّريّة إلى كافة أنحاء العالم، وأن يؤثّر في العديد من المجتمعات.
من الجزائر ، إلى إيران ، ومن فيتنام إلى أمريكا اللاتينية، كان اسمه من أشهر الأسماء الفكريّة خلال الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، جنبا إلى جنب مع جان بول سارتر وإيميه سيزار وتشي غيفارا وباتريس لومومبا وأميلكار كابلار... وغيرهم، حيث كانت هذه المجموعة من المنظّرين والقادة تمثّل آنذاك "صيحة الفكر التحرّريّ العالميّ"، في آسيا وإفريقيا وأمريكيا اللاتينية ، بقيادة أحمد بت بيللا في الجزائر، ، وجمال عبد الناصر في مصر، وهو شي منه والجنرال جياب في فيتنام، ونيلسون مانديلا في جنوب افريقيا، وجومو كينياتا في كينيا، وسامورا ميشال في موزمبيق، وروبرت موغابي في زمبابوي، وفيدل كاسترو في كوبا... وغيرهم.
يمثّل تاريخ فرانز فانون سجّلا حافلا من المشاركات الفكريّة في التعبئة الثوريّة لطلائع المجتمعات الثائرة للتحرّر من الاستعمار، حيث استطاع هذا المفكر الأسود، المارتينيكيّ الأصل، أن يجد له مكانا وسط المناضلين ضدّ القمع والاستدمار، الذي كانت تمارسه قوى الاستعمار القديم ضدّ الشعوب المستعمرة على مدى عقود طويلة. ورغم مشاركته القصيرة في الكفاح المسلّح ضمن صفوف جبهة التحرير الوطنيّ في الجزائر ، غير أنّ الرجل ترك بصمة واضحة في تاريخ الثورة الجزائريّة تحديدا، وتاريخ حركات التحرّر العالميّة عامّة، وهو لا يزال حاضرا بفكره حتّى الآن، وسط مفكّري الحركة التحرّرية العالميّة المعاصرة، غير أنّ الكثيرين منّا لا يعرفون فانون تماما، ويجهلون مسار حياته الحافل بالكثير من الأحداث الهامّة والمثيرة.
 
شكلت ثورات التحرر الجزائرية والفيتنامية وغيرهما عنواناً لأحلام عريضة بالتحرر والتقدم لكل شعوب العالم الثالث فى آسيا، وافريقيا، وأمريكا اللاتينية. لقد حلمت الشعوب يومها أن هاتين الثورتين المظفرتين، الجزائرية والفيتنامية ، ستشكلان عنواناً لنهوض العالم الثالث وتحرره من السيطرة الغربية وتصفية صفحة بغيضة من التاريخ البشري، هى صفحة الاستعمار .
لكن بدلا من التقدم والتحرر وبناء نظام علاقات دولية متكافئة ، فإذا بنا نعود إلى عصر الاستعمار العسكرى المباشر . وهذه العودة لم تأت من سماء صافية، بل من سماء ملبدة بالغيوم التى تجمعت خلال نصف قرن، فقد فشل فكر اللحاق بالغرب الذى ساد فى العالم الثالث، فوقعت الدول النامية فريسة لاستعمار اقتصادى . فقد اصطادها المرابون بشبكة الديون. فانهارت الكثير من احلام التحرر عندما غرقت الجزائر بالحرب الأهلية، هى التى بدت فى يوم انتصار ثورتها وكأنها قاطرة للثورة الافريقية المنشودة.. وعلى الصعيد الثقافى والفكرى عاد الغرب إلى تمجيد تاريخه الاستعمارى بعد أن انزوى خجلاً لبعض الوقت، فصرح غوردن براون، وزير الخزانة البريطاني ، قائلاً:  "لق"ولّى الزمن الذى كانت بريطانيا مضطرّة فيه للاعتذار عن تاريخها الإستعماري".
 
مولده ونشأته
ولد فرانز فانون في 23 تموزعام 1925 في جزيرة المارتينيك في جزر الأنتيل، الواقعة في بحر الكاريبي بأمريكا الوسطى، وهي جزر تابعة للسيادة الفرنسيّة. وقد ولد فرانز فانون لأسرة زنجيّة مكوّنة من ثمانية أفراد، وكان الخامس بين إخوته. عاش فرانز فانون في مدينة "فور- دي- فرانس" بالمارتينيك، وهي نفس المدينة التي ولد وعاش فيها الشاعر والمفكّر العالميّ الكبير "إيميه سيزار" مؤسّس "حركة الزنوجة العالميّة".
درس فرانز فانون في مدرسة سيزار، الذي علّمه كيف يفتخر بزنوجته، وكيف يطالب بحقوقه ويدافع عنها كفرد، من خلال الدفاع عن حقوق الجماعة، أي حقوق الزنوج في المارتينيك، وعلى رأسها مطلب المساواة مع البيض الفرنسيّين، الذين احتكروا كلّ شيء وسيطروا على مختلف مناحي الحياة في الجزيرة الصغيرة لصالحهم.
 
استطاع خمسة أبناء من أسرة فانون الإلتحاق بالجامعة ومواصلة الدراسات العليا في الجامعات الفرنسيّة، وواصل فرانز فانون  تعليمه في الجامعة كإخوته، واستطاع أن يحقّق حلمه بأن يصبح طبيبا نفسيّا ، كما درس الفلسفة وبرع في تحليل العديد من الظواهر الإنسانية التي قابلته، باعتباره طبيبا مختصّا في تفسير السلوك النفسيّ الإنسانيّ وعلاجه من جهة، وبإعتباره أيضا مناضلا ضدّ قوى الاستعمار القديم من جهة أخرى.  
كان لدى فرانز فانون  شعور كبير بالإنتماء للأفارقة بسبب لون بشرته الأسود، حيث كان يحسّ بأنّه جزء من النضال الإفريقيّ ضدّ الاحتلال الفرنسيّ والإنجليزيّ والبرتغاليّ والبلجيكيّ المتوسّع في القارّة الأفريقيّة آنذاك، لذلك أصدر كتابه ، "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" ، لتفسير ظاهرة "الزنوجة" ، عبر شرح الثورة الإفريقية على المستعمر الأبيض، كما قدّم فانون في العديد من المقالات التحليليّة دراسة لظاهرة التمييز العنصريّ في جنوب أفريقيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة ، ليفكّك بنية ظاهرة التمييز العنصريّ بوصفها مشكلة غير أخلاقيّة وغير إنسانيّة، تقوم على استغلال الإنسان الأبيض للإنسان الأسود، ضمن نظام اجتماعيّ طبقيّ قائم على الظلم.
في عام 1953 جاء فانون  إلى الجزائر ، وبدأ عمله كطبيب بمستشفى البليدة، وهناك إكتشف أنّ القمع الاستعماريّ كان أحد أهمّ أسباب إصابة بعض الجزائريّين بالجنون، وبالفعل لقد كانت حصيلة 132 عاماً من القمع والإحتلال الفرنسيّ كبيرة في تأثيرها في نفسيّة كل جزائريّ شريف مقاوم للإحتلال، وقد كانت إحدى الأمثلة واضحة في قصّة الشيخ عبد الحليم بن سماية أحد زعماء "جمعية علماء المسلمين الجزائريّين"، الذي قيل أنّه فقد عقله في الذكرى المائة لإحتلال الجزائر 1930، إذ لم يتحمّل الشيخ منظر الإحتفالات التي أقامها على أرض الجزائر المستعمرون الفرنسيون وبعض الأهالي المستسلمين، ليصاب بخيبة أمل كبيرة تسبّبت له بالجنون، واستمرّت حالته كذلك حتى وافته المنيّة وكانت حكاية الشيخ بن سماية من أهمّ الأمثلة الواضحة التي لفتت نظر فانون حول التأثير النفسيّ الكبير للإستعمار في نفسيّات وعقول الجزائريّين.
كان وجود فانون إلى جانب الأطباء والممرّضين في مستشفى البليدة دافعا لتطوير أساليب العلاج النفسيّ للمرضى، وتحقيق نتائج أكثر فعّاليّة بعيدا عن استخدام الأساليب التقليديّة في العلاج، كالعلاج بالصدمات الكهربائيّة.
 
دهش فانون لمعاملة الجزائريّين له، حيث كانوا يعتبرونه جزائريّا إلى أن يكتشفوا العكس، ففي إحدى المرّات خاطبته مريضة وطلبت منه أن يتحدّث معها باللغة العربيّة حتّى تفهمه ما دام جزائريّا ، وفي مرّة أخرى طلب منه أحد الجزائريين أن يتوب إلى الله حين شاهده يدخّن سيجارة في شهر رمضان، ظنّا منه أنّه عربيّ مسلم أفطر ، وكانت معاملة الجزائريين له سببا في تعلّقه الكبير بالمجتمع الجزائريّ، لأنّه وجد معاملة مختلفة عن تلك التي عهدها من قبل، حيث كان سكّان المارتينيك يعتبرون الرجل الأبيض "الرجل الأذكى والأقوى والأفضل والأحسن دائما"، فيما الرجل الأسود هو "العبد الضعيف والأميّ المتخلف"، الذي لا يمكنه أن يعيش سيّدا أبدا
 
وفاته ونهاية نضاله
كان فرانز فانون في الجبهة الجزائريّة الغربيّة للقتال في مدينة وجدة ، وبينما كان خارجا من الثكنة ومارّا بإحدى طرق المدينة، رفقة جنديّ جزائريّ على متن سيارة جيب عسكريّة، إنفجرت قنبلة تحت السيارة تسبّبت له بجروح بليغة في ظهره، وأفقتده الوعي تماما، ونظرا لعدم توفّر العلاج المناسب له في الجبهة، تمّ نقله إلى الولايات المتّحّدة الأمريكيّة للعلاج ، لكنّ الأطباء الأمريكيّين اكتشفوا فجأة مرض سرطان الدمّ "اللوكيميا" لدى فانون، فلم يكن بإمكانهم فعل الكثير، وبقي فانون يعاني من مرضه في المستشفى إلى أن توفي في السادس من كانون الأول ( ديسمبر) 1961 في واشنطون، وعمره لم يتجاوز 36 عاما.
تولّت قيادة جبهة التحرير الوطنيّ الجزائريّة نقل جثمان الفقيد إلى الجزائر، كما أوصى فانون بنفسه، وأقيمت له جنازة عسكريّة، ولفّ ضريحه بالعلم الجزائريّ، ودفن فانون بمدينة الطارف شرق الجزائر، ولا يزال قبره موجودا حتى الآن على أرض الجزائر التي أعطته الكثير وأعطاها الكثير.
وكانت الجزائر خصصت جانباً من احتفاليتها باليوبيل الذهبى للثورة لإعادة التذكير بمفكر الثورة ومنظرها ، المناضل المارتينيكى - الجزائرى فرانز فانون ، فأعادت طباعة أعماله كاملة . وهكذا أعيدت طباعة أعمال فرانز فانون واكتسبت أفكاره حياة جديدة بعد أن ظن الكثيرون أنها قد انتهت بانتهاء العالم الذى تتحدث عنه.
 
يعتبر كتاب " معذبو الأرض"The Wretched of the Earth أشهر كتب فرانز فانون ، وقد كتبه وهو على فراش الموت ، وصدر عام 1961 والثورة الجزائرية، التى ارتبط اسمه بها إلى الأبد، على وشك الانتصار.
 
وفي كتابه"بشرة سوداء أقنعة بيضاء"  الآنف الذكر ، تناول  فرانز فانون  ظاهرة الاستلاب الذى يتعرض له المستعمَر حين يتبنى قيم المستعمِر. يقول فانون: "تنشأ داخل الشعوب المستعمرة عقد دونية تجاه المستعمر ، فيحاول أفرادها اعتناق قيم المركز الثقافية ". ويضيف : "إن من يدخل فرنسا يتغير،لأن المركز يمثل  في نظره  المستقر والملاذ، إنه يتغير ليس فقط لأن من هذه الأرض جاءه مونتسيكو، روسو، وفولتير، بل لأن من هناك جاءه الأطباء والإداريون المتسلطون الذين لا يحصون....إن من يسافر لمدة أسبوع فى اتجاه المركز يخلق حوله دائرة سحرية حيث تمثل الكلمات، مارسيليا، سوربون، بيغال، مفاتيح العقد...".وعندما يعود إلى وطنه "لا يتحدث إلا بالفرنسية ، وغالباً لا يعود يفهم لغة الكريول" (لغة شعبية فى المارتينيك).
 
فى عام 1953 عين فانون فى مشفى الأمراض العصبية فى مدينة بليدا الجزائرية ، وهناك بدأت رحلته مع الثورة الجزائرية التى شاهد اندلاعها عام 1954. وفى عام 1956 وجه رسالة إلى المفوض العام الفرنسى روبير لا كوست يعلن فيها استقالته من عمله ويدين السياسة التى حولت عدم المساواة والقتل، إلى مبادىء قانونية، موجهة ضد المواطنين الأصليين فى الجزائر.
بعد هذه الرسالة طُرد فانون من الجزائر. لكن ارتباطه بالثورة الجزائرية صار أمراً لا رجعة عنه ،فبعد أن فشل في تحريض الرأى العام الفرنسى ضد استعمار الجزائر انتقل إلى تونس، وأنشأ هناك الفرع الخارجي لجبهة التحرير الوطني. ثم أصبح عضواً فى هيئة تحرير صحيفة "المجاهد" الناطقة باسم الجبهة. وفى عام 1959 عينته جبهة التحرير سفيراً متجولاً لها فى افريقيا ، وهناك شاهد الدول المستقلة حديثاً والتقى قادتها، فحذر من المصير السيء الذى تسير إليه هذه الدول المستقلة إذا لم تتدارك الأمر.
يقول فانون : "إن الدكتاتورية فى البلاد المتطورة هي نتاج القوة الاقتصادية التى تتمتع بها البرجوازية. أما فى البلاد المتخلفة فإن الزعيم هوالقوة المعنوية التى تريد البرجوازية، الهزيلة الفقيرة، أن تغتنى فى ظلها وتحت حمايتها. والشعب الذى ظل سنين طويلة يرى الزعيم ويسمع خطبه، يمحض هذا الزعيم ثقة من تلقاء ذاته. لقد كان الزعيم قبل الاستقلال يجسد آمال الشعب ،ولكنه بعد الاستقلال تراه يكشف عن وظيفته الحقيقية ألا وهى أن يكون الرئيس العام لشركة المنتفعين ."
وتصبح وظيفة الزعيم لجم وعى الشعب وتضليل الجماهير عبر تذكير الشعب بالمعارك التى خاضها باسمهم والانتصارات التى حققها. لقد صارت وظيفته تخدير الشعب عبر تذكيره بالماضي. وقد شاهدنا بأم أعيننا كيف حدث هذا فى العديد من دول العالم الثالث.
ويؤكد فانون مراراً وتكراراً أن هذه البرجوازية التافهة تحاول أن تحجب هذه التفاهة بأقنعة شتى : "بأبنية فخمة على المستوى الفردي،بسيارات أمريكية فارهة، بإجازات تقضيها على شواطيء الريفيرا، بعطل أسبوعية فى الكباريهات. ذلك كل شأنها".
 
فانون والعنف
يلاحظ فانون أن العنف يلعب دوراً بالغ الأهمية فى تحرر المستعمَر، لأن العالم الإستعماري بنى أساساً على العنف ، وليس ثمرة تفاهم ودي.
ويقول : "تغيير المستعمَر للعالم الاستعمارى ليس معركة عقلية بين وجهتى نظر، ليس خطاباً فى المساواة بين البشر، وإنما هو تأكيد عنيف للأصالة تفرض مطلقة".
المستعمِر هو سبب العنف، وهو خالقه، وكل عنف يصدر عن أهل البلاد ومن حركتهم الثورية مهما بلغت شدته هو رد فعل على العنف الأصلي.
ويلاحظ فانون أنه عندما يبلغ المستعمَر نقطة اللاعودة يكون قد اقترب من الانتصار، يقول فانون : "إن فى الكفاح المسلح شيئا يصح أن نسميه “ النقطة التى لا عودة بعدها". ولا يكتفى فانون بالعرض النظرى للعنف إنما يعرض حالات سريرية تشير إلى أن العنف المكبوت فى نفس الإنسان المستعمَر نتيجة العنف الممارس عليه منذ قرون يطيح بشخصيته أو يخرب مجتمعه إن لم يستطع أن يخرجه عبر الكفاح المسلح ضد المستعمر، لذلك يضع فصلاً كاملاً فى كتاب "معذبو الأرض" بعنوان "من الاندفاع إلى الإجرام إلى حرب التحرير الوطني"، ويستنتج أن الكفاح المسلح نظم العنف الذى كان ينفلت عشوائياً.
 
وبعد؛
هذا هو فرانز فانون لمن لا يعرفه،
هذا الرجل الذي تولي له الدول الغربيّة اهتماما كبيرا، فيما نهمله نحن ولا نذكره إلاّ قليلا..!
لقد مات فانون مقاتلاً مناضلاً حتى النهاية،
تاركاً لنا دعوة مفتوحة تصلح لأي زمان ومكان ...
للنضال ضد أي ظلم ...
للتحرر من كل ما يُقيد تفكيرنا وأفعالنا ...
للايمان بشيء يستحق الموت من أجله ..!
ـــــــــــــــ
كاتب واكاديمي فلسطيني مقيم في السويد.