الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الدولة الوطنية والدول الأخرى

الدولة الوطنية والدول الأخرى

28.10.2013
د. رضوان السيد


الاتحاد
الاحد 27/10/2013
في مناقشاتهم حول مستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي، يتسم الكثير مما ينشره الكتاب العرب بالسلبية، جزئياً أو كلياً. ولا شكّ أنهم تأثروا بالظروف الراهنة أو ظروف العقد الماضي بشكل عام. وهي ظروف وانطباعات طرحت وتطرح ثلاثة تحديات: التحول الذي طرأ على الدولة الوطنية العربية الناشئة حيث سادها العسكريون الذين أنتجوا أنظمةً ديكتاتوريةً حقّقت بعض الاستقرار، لكنها اعتمدت القمع في السياسات الداخلية، والتلاؤم والاستتباع على مستوى الإقليم والعالم. والتحدي الثاني تحدّي الإسلامَين الجهادي والسياسي وأصلُهُما واحد. وهو تحد يضع الدين في مواجهة القومية، وفي مواجهة الفئات الاجتماعية، ويتظاهر بالتصالح مع العالم (وليس مع الداخل) من أجل الوصول للسلطة والاستقرار فيها. والتحدي الثالث الاستنزاف الإقليمي والدولي، فقد غاب العرب لزمن طويل عن المسرح، بحيث اعتبر الإقليميون (الإيرانيون والأتراك والإسرائيليون) أن هناك فراغاً لابد من ملئه، فاندفعوا لإقامة مناطق نفوذ، وللتلاؤم مع الولايات المتحدة والأوروبيين أو مع الروس والصينيين أو مع سائر الأطراف. ولذلك فإنّ الناس والشبان الذين خضعوا طويلا، سارعوا أو اندفعوا في حركات مدنية زاخرة لإقامة أنظمة بديلة، فواجهتهم العناصر والعوامل سالفة الذكر. واجهتهم الجيوش أو بقاياها التي كانت الديكتاتوريات تحتضنها وتحكم من خلالها. وواجههم الإيرانيون والأتراك والإسرائيليون. وواجههم الأميركيون والروس. وواجههم منذ البداية الإسلاميون الجهاديون والحزبيون. وبالتالي فإنه ما من بلد عربي قامت فيه ثورة إلا وهو يواجه إحدى هذه المشكلات أو كلها مجتمعة.
وبدلا من البحث في أسباب الفشل أو الإعاقات؛ فإن كثيرين من المثقفين الذين تظاهروا بدعم الحركات المدنية في البداية، عادوا فقالوا إنهم ضدها لأن الديمقراطية ثقافة، والعرب لم تصبح الديمقراطية جزءاً من ثقافتهم، لذلك فهم لم يعودوا مع الثورات لأنهم ضد الإسلام السياسي، وضد التدخل الدولي والإقليمي. وصرَّح بعضهم بتفضيل بقاء هذا النظام العسكري أو ذاك وبخاصة نظام الأسد!
لقد واجهت الدولة الوطنية انتكاسةً كبيرةً منذ سبعينيات القرن الماضي. وما كانت للجهاديين ولا للحزبيين الإسلاميين علاقة بذلك، بل كان سبب الانتكاسة عجز العسكريين والحزبيين القائمين على الأنظمة الوطنية عن النهوض بالداخل، وعن تحقيق الأهداف التي طمحوا إليها، وانهماكهم في حروب ونزاعات فيما بينهم، وانضواءهم بالتدريج تحت راية الولايات المتحدة. والأسـوأ من ذلك أن قمعهم انصبَّ على الداخل فقسّموه وشرذموه وحوَّلوه إلـى إثنيات ومذهبـيات، وحكموا بتحـالُفات بين الأقليات. وبذلك فقد صار الداخل -من وجهة نظرهم على الأقل- هو الخصم الحاضر لهم، وصارت مُعاداته أَولويةً لديهم. ونتيجةً لذلك انفتح خياران: الخيار الوطني الديمقراطي، والخيار الأصولي الإسلامي (بشقّيه الجهادي والحزبي). وما كانت لدى القوميين الديمقراطيين أية همةٍ أو وعيٍ واسع. فقد اعتبر كثيرون منهم أن الأنظمة القائمة هي أنظمة وطنية وقومية وتقدمية، والمطلوب وحسْب أن تتدمقرط (كما يقال) ولا شيء أكثر. أما كيف تمضي أنظمة الأقليات العسكرية والأمنية باتجاه الحل الديمقراطي، فهو الأمر الذي ما فكر فيه هؤلاء كثيراً. بل إن وعي بعضٍ من مُستنيريهم اندفع مرةً واحدةً باتجاه الإسلاميين، وأرادوا إجراء مُصالحة معهم لتشكيل ما سمَّوه بالكتلة التاريخية للنهوض والتي تضم القوميين والإسلاميين الذين توافقوا على شكل المستقبل. وبذلك فإن هؤلاء الذين كانوا مستتبعين للأنظمة، ذهبوا باتجاه الاستتباع أو الندية مع الإسلاميين (الإخوان). وقد تظاهر بعض المشاركين في الحوارات من الإسلاميين بالموافقة على هذه الكتلة، إنما شأنهم في ذلك شأن العسكريين الحاكمين، ما كانوا يرضون أن يتنازلوا عن شيء من سلطاتهم وممارساتهم.
وبالطبع ما كان الجهاديون ممكني الاستعادة. فهؤلاء مضوا باتجاهات التكفير والقتال، وحوَّلوا الإسلام إلى مشكلة عالمية. أما الحزبيون منهم فقد كانت لدى بعضهم ميول للملاءمة من أجل أن يصبحوا صالحين لتولّي السلطة. فالأنظمة العسكرية الفاسدة فقدت شعبيتها لأسباب كثيرة. ومن الطبيعي أن لا تكون للقوميين التائبين أو الفاشلين شعبية أيضاً، ولا لأُولئك العنيفين، لأن شعوبنا تكره العنف من أي جهة أتى. ولذلك فقد كانت هذه الخيارات السيئة الواردة من كلّ جهة تمضي باتجاه الإسلاميين الحزبيين الكامنين والذين يقطفون الثمرات التي خلّفها الجميعُ وراءهم. وقد زاد الطين بلّة اضطرارُ الأمنيين والعسكريين للمجاملة في مسائل الانتخابات المحدودة والمزوَّرة. وما منع ذلك "الإخوان" من المشاركة فيها على سبيل التحدي والتلاؤم وإظهار حُسن النية أيضاً. ولأنّ الاطمئنان خالط العسكريين والأمنيين الخالدين في السلطة، فما كان عندهم مانع أن يعطوا الإسلاميين المتظاهرين بالتلاؤم بعض الفُتات هنا وهناك. فقد كان كُلٌّ منهم يحتال على الآخر، وكان القوميون القُدامى يقومون بالوساطة لخدمة العسكريين أولا وخدمة أنفُسهم ثانياً.
وخلال تبادل تلك السِلَع الوهمية، كانت الحرب الباردة قد انتهت، واتجه الأميركيون للهيمنة الأحادية، فسارعت سائر الأنظمة للانضواء تحت جناحهم، وتلقّت وظائف جديدةً (قمع الإسلاميين، وإرضاء القوميين والإسرائيليين) أو تجددت وظائفها القديمة في تسكين الداخل بالقوة، وحماية الأقليات، والمشاركة في الحرب على الإرهاب الإسلامي!
وسط الفراغ العربي القاحل بعد حروب صدّام حسين والقذافي وانتكاساتهما الفظيعة، تقدّمت تركيا وإسرائيل وإيران للعمل شركاء مضاربين عند نظام الهيمنة. وبالفعل فقد أسهمت إسرائيل سراً في عدة عمليات لصالح الولايات المتحدة وتمدد الأتراك بمعونة الأميركيين في آسيا الوسطى ومناطق أُخرى، بل ودخلوا مع الأميركيين إلى البوسنة وكوسوفو وأفغانستان. أما الإيرانيون فقد دخلوا مع الأميركيين وحلفائهم إلى غزوتي أفغانستان والعراق. فبدأ لأول وهلةٍ أن الأمر استقرّ لنظام الهيمنة وحلفائه الإقليميين. لكن فريقاً من الأفغان والعراقيين ثاروا على أميركا وإيران. وعندما تزايد الاستنزاف عليهم، قرورا الانسحاب من العراق ولاحقاً من أفغانستان، وأشركوا في الحالتين إيران، والتي تمدد نفوذها إلى لبنان بواسطة "حزب الله"، وتعاظم في سوريا أيام بشار الأسد. والطريف أنه وسط الودّ والتقاسُم فإنّ تركيا أرادت مشاركة إيران في سوريا، وقد أظهر الأسد ترحيباً، وما اعتبرت إيران ذلك مشكلة.
وحدثت الثورات العربية التي انطلقت في الأساس ضد أنظمة الفساد والاستبداد. وهكذا سارع الأميركيون إلى التبنّي، والإيرانيون والأتراك للتدخل لصالح "الإخوان" إنما خارج سوريا. وما فشلت حركات التغيير، فالأنظمة ذاهبةٌ جميعاً، إنما المشكلة عدم القدرة على اجتراح البدائل وسط استقطابات الأقليات والأميركيين والإيرانيين والإسلاميين.
ولنعُدْ إلى الأساس. أطلقت حركات التغيير نداء الديمقراطية والحكم الصالح. فالتفّ عليها الأميركيون والجيش وجاؤوا بـ"الإخوان" إلى السلطة، عن طريق قناة "الجزيرة" ومن دونها. وفشل الإسلاميون وسيفشلون بسبب سوء الممارسة، والتعامل المزدوج في مسألة الدولة والنظام.
لا بديل عن الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية العربية. فهذا الإطار الوطني القومي هو الذي ما يزال ماشياً ومدْعواً إليه. وأعتقد أنّ المطلوب بعد الإحياء القومي، هو الاستكمال الديمقراطي للمؤسَّسات، بحيث يستطيع الناس ممارسة سلطاتهم بثقةٍ واطمئنان. ما فشلت الدولة الوطنية، بل الذي فشل هم الإسلاميون الذين صوَّت لهم الناس ودعوهم للمشاركة في السلطة، لكنهم ما أرادوا إلا السلطة كلها!
انتكست الدولة الوطنية إذن في مرحلتها الثانية بعد استيلاء العسكريين عليها، وقد حاول الإسلاميون الحزبيون الاستيلاء ففشلوا في الفكرة والممارسة. ولا بديل عن الدولة الوطنية العربية اليومَ وغداً.