الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الرؤية الاستراتيجية الروسية والمسألة الشرقية

الرؤية الاستراتيجية الروسية والمسألة الشرقية

26.11.2013
د. السيد ولد أباه


الاتحاد
الاثنين 25-11-2013
قبل سنوات، أصدر الروائي الروسي "يوري بتخوف" كتاباً مثيراً بعنوان "النظام العالمي الروسي"، لقي انتشاراً واسعاً في روسيا، وذهب فيه المؤلف المعروف بكتابة الخيال العلمي الشعبي إلى أن روسيا هي التي اخترعت أميركا وأوروبا، وهي التي ستسترجعهما في المستقبل، منوهاً ببطل الإمبراطورية الروسية الحمراء "ستالين" ومندداً بمن أتوا بعده من "الخونة"، الذين لم يحافظوا على عظمة ووحدة الدولة الروسية.
ورغم أن كتاب "بتخوف" لا يرقى إلى مستوى الفكر الاستراتيجي أو البحث السياسي، بل هو أقرب لأدبيات الخيال العلمي، إلا أنه احتفي به على نطاق واسع في أوساط "اليمين الروسي" الذي تدعّمَ حضوره في السنوات الأخيرة في الحقل السياسي وفي مركز صنع القرار منذ بدء الحقبة البوتينية (2000-2013). وتتوزع الرؤية الاستراتيجية الروسية إجمالاً إلى مدارس ثلاث كبرى هي:
- "الدولاتيون"، أي أنصار الدولة القوية، الذين يتوزعون لاتجاهات متنوعة يجمعهم الإيمان بأن تركيبة المجتمع الروسي ووضع البلد الاستراتيجي يقتضيان الحفاظ على نموذج الدولة المركزية المسلحة القادرة على رد الغزو الخارجي ومنع تفكك الكيان الداخلي، مما يفسر طابع الخصوصية في نظامها السياسي الذي يغلب المقتضيات الأمنية على متطلبات الانفتاح
السياسي. كان القيصر "ألكسندر الثالث" يقول: "إن روسيا ليس لها ما تعتمد عليه من الحلفاء سوى حليفين هما مدفعيتها وجنودها".
- المتغربون: أي أنصار الاقتراب من الغرب والتحالف معه من منظور الهوية الأوروبية لروسيا، والإيمان بأن الغرب يمثل المسلك الوحيد للتحديث الفكري والسياسي والانتقال الديمقراطي. هيمن هذا الاتجاه على الحياة السياسية الروسية بعد نهاية الحقبة الشيوعية والحرب الباردة ومن أبرز رموزه الرئيس الأسبق "بوريس يلتسين" ، بيد أنه تراجع أخيراً واتهم بالمسؤولية في أضعاف روسيا وتفكيكها.
- الحضاريون: أي القائلون بخصوصية النموذج الحضاري الروسي وتفوقه، باعتبار روسيا هي روما الثالثة المؤهلة لقيادة العالم أخلاقياً وروحياً، مما ولد نزعة رسالية توسعية شكلت تاريخياً الأفق الأيديولوجي للنزعة الامبراطورية الروسية في تجلياتها المختلفة.
ينتهج الرئيس بوتين مسلكاً جامعاً بين النزعتين "الدولاتية" والحضارية، فهو من جهة من أعاد بناء الهيكل المؤسسي للدولة على أسس مركزية قوية عمادها الجهاز العسكري- الأمني- ضمن محددات النظام التعددي الانتخابي، كما أنه يعتمد بوضوح في خطابه السياسي وتجربته العملية رؤية النزعة الحضارية، التي أصبحت نوعاً ما أيديولوجيا رسمية للدولة.
وفق هذا التوجه الأيديولوجي جرى في السنوات الأخيرة إعادة تصور العقيدة الاستراتيجية الروسية في اتجاه تكريس الهوية الأورآسيوية لروسيا وتجذبر بعدها الشرقي، في مقابل مشروع التمدد الأوروبي الذي تبنته القيادة الحاكمة في المرحلة الانتقالية ما بعد الشيوعية. وطبقاً لهذا التصور يتم التأكيد على أن الأرضية العميقة للثقافة الروسية أقرب للحضارات الشرقية ولا شيء يجمعها مع المسيحية الغربية في رافديها الكاثوليكي والبروتستانتي (المسيحية الفردية النفعية كما نظر لها ودافع عنها سراة الفكر الليبرالي الغربي الحديث). ومن هنا بروز العديد من المشاريع الاستراتيجية التي بلورتها الدوائر القريبة من مركز القرار مثل مشروع riki لإقامة تحالف واسع بين روسيا والقوى الصاعدة في محيطها الآسيوي (الصين والهند وإيران) يكون حاجزاً جيوسياسياً أمام حركية التوسع الغربي التي بدأت منذ تفكك الاتحاد السوفييتي ووصلت إلى تخوم روسيا.
تفسر هذه الرؤية سياسة روسيا الإسلامية المزدوجة التي في الوقت التي تصنف خطر التطرف الإسلامي في مقدمة التحديات الأمنية والاستراتيجية التي تواجهها، ترى في الآن نفسه العالم الإسلامي حليفاً موضوعياً لها في منظورها الحضاري للعلاقات الدولية (مما ترجمه كتاب طريق مقاتلي الله: الإسلام والسياسة الروسية من تأليف اثنين من كبار الخبراء المقربين من الكريملن)، وقد سبق للرئيس بوتين أن صرح بأن روسيا "قوة إسلامية".
المشروع الأوروآسيوي لروسيا الجديد يعتمد بالإضافة إلى هذا التصور الحضاري الذي هو أرضيته الأيديولوجية على محور الطاقة النفطية والغازية عنصر قوة وإطار تكتل، ضمن المجالين القريب (المجال الحيوي الروسي) والبعيد (الإطار الآسيوي ).
في المجال القريب، نلمس السياسة الروسية الساعية إلى تأمين استمرارية تحكمها في البلدان التي تتشكل منها رابطة الدول المستقلة، وهي جل الدول المنتمية سابقاً للاتحاد السوفييتي، ويطلق عليها في التعابير السياسية الروسية لفظ "الأجنبي القريب". فهذه البلدان رغم استقلالها ترتبط بمصالح حيوية عضوية مع روسيا، وتعيش فيها أقليات روسية فاعلة (25 مليون)، وتشكل ورقة الطاقة عنصر التحكم الاستراتيجي فيها (مثال صراع الغاز مع أوكرانيا).
وفي المجال الآسيوي الواسع، ظهرت بعض المؤشرات على قيام نمط من المحور النفطي بزعامة روسيا تنتمي إليه قوى نفطية إقليمية ككازاخستان وإيران، مستخدمة إمكاناتها الهائلة في الطاقة الأحفورية (أكثر من ثلث المخزون العالمي من الغاز و7 في المئة من المخزون النفطي). هذه التوجهات هي التي تفسر موقف القيادة الروسية من أحداث "الربيع العربي"، الذي سماه بوتين "الشتاء الإسلامي"، وبالخصوص من الملف السوري الذي تتداخل فيه معطيات متشابكة تتعلق بصراع التموقع في الشرق الأوسط وشبكات الطاقة وموضوعات التطرف الديني، ونموذج تسيير الدول ذات التركيبة الدينية والطائفية المتنوعة التي تنتمي إليها روسيا. ومن الواضح أن محور الصراع الحالي بين روسيا والقوى الغربية (الذي لا يمكن أن نطلق عليه مفهوم الحرب الباردة) هو التحكم في القوى الإقليمية الفاعلة في الخط الأوروآسيوي التي سماها "بريجنسكي" بالدعائم الجيوسياسية للنظام الدولي، وعليها يتوقف أمن واستقرار العالم ومصالح الدول الكبرى.
لا يمكن الحديث هنا عن مقاربة استراتيجية منسجمة ونهائية، بل عن عناصر ومؤشرات بادية للعيان في دولة كبرى لا تزال تعيش مخاض الانتقال، وتعاني من أزمة هوية عميقة لحسم تركيبتها الثقافية المزدوجة السلافية (التقليد البيزنطي الأرثوذكسي) والأوروبية، تركت أثرها في طبيعة خياراتها الاستراتيجية والفكرية.