الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الروس ينقسمون حول إغتيال فخري زادة 

الروس ينقسمون حول إغتيال فخري زادة 

02.12.2020
بسام مقداد



المدن 
الثلاثاء 1/12/2020 
لم يكن من السهل أن يتقبل الروس تحالف الكرملين مع نظام الملالي الإيراني، وهم الذين يرفضون مقارنة ثقافتهم وقيمهم ونمط حياتهم، سوى مع ما في الغرب من ثقافة وقيم ونمط حياة. وفي حين يطغى على هذه المقارنة لدى المثقفين والنخب الروسية السعي إلى التمثل والإندماج بكل ما في الغرب، يتفاخر العامة الروس بفرادة نمط حياتهم وثقافتهم وتمايزها عن كل ما في الغرب، بل وتناقضها ومعاداتها له. 
يستثمر الكرملين في هذا الشقاق الروسي التاريخي التقليدي لكل البلدان الساعية إلى اللحاق بالغرب، ليبني "روسيا مقدسة" متخيلة، شبيهة بإيران الملالي، بل ومتحالفة معها، كما يقول الكاتب ألكسندر نيفزوروف في مقابلة معه على موقع إذاعة " صدى موسكو" الشهيرة. هذا الشقاق المميز لكل حدث داخلي روسي، لا يتأخر في البروز في أي حدث خارجي يضطر الكرملين للتعامل معه، وليس مقتل العالم الإيراني محسن فخري زاده إستثناءاً. 
الموقف الروسي الرسمي من هذا الحدث، جاء على لسان رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الروسي (الدوما) ليونيد سلوتسكي، الذي وصف مقتل الفيزيائي الإيراني فخري زاده، بأنه عمل إرهابي يهدف إلى إستفزاز طهران مجدداً، ومن المهم الحؤول دون ارتفاع التوتر في المنطقة. وقال، بأن روسيا تدين هذا الإغتيال "كائناً من كان مرتكبه"، وتعبر عن تعازيها العميقة لإيران وذوي فخري زاده، حسب نوفوستي. 
موقع الإذاعة المذكورة نشر تعليقاً لكيميائي روسي على مقتل فخري زاده، يدين فيه إغتياله وينتقده، في الوقت عينه، على عمله مع الأجهزة العسكرية والأمنية الإيرانية. يقول الدكتور في علوم الكيمياء بوريس جويكوف، بأنه يعمل منذ 46 عاماً في حقل الذرة، لكنه لم يعمل أبداً، ولن يعمل لصالح العسكريين وأجهزة المخابرات. سباق التسلح النووي لم يفض إلى السلام، بل وضع البشرية على حافة كارثة نووية، والتوازن النووي لا معنى له، فالأرض يمكن أن تُدمّر حتى لدى استخدام طرف واحد السلاح النووي. 
ويقول، بانه من الخطير جداً، أن يقع السلاح النووي في ايادي غير العقلاء في الأنظمة التسلطية، والنظام في إيران لا يثير أي تعاطف معه، ولذلك لا يمكن الموافقة أبداً على عمل محسن فخري زاده. لكنه يستنكر مقتله في غير زمن حرب حقيقية، ويرفض إعتباره إرهابياً، "على الرغم من أنه كان يخدم الدولة الإيرانية". ويعتبر إغتياله عملية إرهابية "مخيفة ومثيرة للإشمئزاز"، خاصة إذا كانت إرهاب دولة (في الإشارة إلى اتهام إسرائيل بها)، وهي لن تعرقل تطور برنامج إيران النووي العسكري، بل ستكثف من وتيرته. 
وفي نقاشه لإتهام إسرائيل بالعملية، يقول "دعك من البروباغندا الإيرانية"، لكن ال "نيويورك تايمز" نفسها كتبت: " قال مسؤول أمريكي - مع اثنين من مسؤولي المخابرات - إن إسرائيل كانت وراء الهجوم على العالِم". ويقول، بأن الرسميين الإسرائيليين صامتون، لكن من المتوقع أن نسمع منهم الكليشهات الروسية "التي نعرفها"، على غرار: "أثبتوا ذلك" ... " إنها صراعاتهم (الإيرانيين) الداخلية" و"كل هذا إستفزاز من أجل السياسة الكبرى". مثل هذا الموقف يعتمده الإسرائيليون في شأن وجود القنبلة النووية في إسرائيل، حيث يتجاهلون وجودها، في حين أن الكل يعرف بها وعدد الرؤوس، التي تملكها منها إسرائيل، التي ليست عضواً في معاهدة حظر إنتشار السلاح النووي. وبعد أن يمتدح الكاتب الشعب الإسرائيلي، يقول، بأن سياسة الدولة العبرية "غالباً ما تكون بدائية". 
صحيفة الفاشيين الروس "zavtra" نشرت نصاً بعنوان "الإرهابيون الإسرائيليون قتلوا عالماً بارزاً"، قالت فيه، بأن الصحافة الغربية تطلق على محسن فخري زاده لقب "أوبنهايمر الإيراني" (في إشارة إلى روبرت أوبنهايمر، أب القنبلة الأميركية) و"أب القنبلة الإيرانية"، على الرغم من أن السلاح النووي لم يتم إنتاجه بعد في إيران، والبرنامج النووي يحمل طابعاً محض سلمي، كما تستدرك الصحيفة. وفي سرد مطول، تتبنى فيه الصحيفة الرواية الإيرانية للحدث، تصف محسن فخري زاده، بأنه ضابط رفيع في فيلق القدس، وتستعرض تصريحات المسؤولين الإيرانيين بشأن الهجوم. لكن اللافت في النص، هو الشقاق الحاد بين قراء مقالة الصحيفة، والنقاش حامي الوطيس بين مهاجم لها على تبنيها المطلق لإتهام إسرائيل بالهجوم على فخري زاده "قبل أن يثبت التحقيق شيئاً"، وبين مدافع عنها في إتهامها هذا. 
وعلى غرار الشقاق التاريخي التقليدي بين الروس، إنقسم القراء بين معاد للسامية كاره لليهود، وبين مؤيد لإسرائيل ومدافع عنها. ونسب أحد القراء إلى الممثل الرسمي لوكالة الطاقة النووية الإيرانية بهروز كمالوندي نفيه لمقتل فخري زاده، وقال، حسب زعم القارئ، "جميع علمائنا الذريين أحياء يرزقون. لم يلحق الأذى بأي منهم، ولم يتعرض أي منهم لأي حادث". وتشير مثل هذه المزاعم المستهجنة إلى حدة الشقاق بين القراء الروس، حيث بلغ الأمر بأحد المدافعين عن إسرائيل إلى اتهام الشعب الروسي وكبار كتابه، من غوغول حتى ديستويفسكي وتولستوي وسواهم، بالعداء للسامية، وأورد نصاً كتبه الأديب الكبير ليف تولستوي العام 1908 بعنوان "من هو اليهودي" ليثبت إتهامه هذا. 
وكالة "REGNUM" الإخبارية الروسية فضلت نشر تعليقات مواقع التواصل الإجتماعي الروسية على مقتل محسن فخري زاده يوم وقوع الحدث، وقالت، بأن هذه المواقع شهدت نقاشاً حاداً، عبر فيه المواطنون الروس عن وجهات نظرهم. لكن يبدو من التعليقات، أن الوكالة اختارت تلك التي تنسجم مع توجهها الموالي للكرملين وتحالفه مع إيران، إذ أنها جميعها تتبنى الرواية الإيرانية للحدث، من دون ملاحظة تُذكر عليها، كما في حالة قراء الصحيفة السابقة. يقول أول التعليقات، التي نشرتها، بأن ما يجري بينهم (الإيرانيين والإسرائيليين) شديد القسوة، فإيران، ومنذ التسعينات، لم تكن تسمح بدخول البلاد لأولئك، الذين تحمل جوازات سفرهم فيزا إسرائيلية. ويقول تعليق آخر، بأنهم يقتلون أي إيراني يعمل في هذا البرنامج، فهو ليس الأول، ولن يكون الأخير. ويرى تعليق ثالث، أن أحداً ما ليس من مصلحته، أن يكون لدى الآخرين علماء يشغّلون محطة كهرباء نووية ويخلصون البلد من الإعتماد على الطاقة في بلدان أخرى. ويرى التعليق الأخير، الذي اختارته الوكالة، بأنهم لا يستطيعون الإنتصار، ولذلك يقتلون السياسيين والعسكريين والعلماء، الذين يعملون لخير بلدهم. 
صحيفة القوميين الروس "sp"، التي تتشارك مع صحيفة الفاشيين "zavtra" في الكثير من التوجهات، خاصة تمجيد النزعة الإمبراطورية الروسية التوسعية، علقت على الحدث الإيراني بنص عنونته "ضربة دقيقة ل "أب القنبلة النووية الإيرانية: بما أخافت طهران الولايات المتحدة وإسرائيل إلى هذا الحد". وضعت الصحيفة مقتل فخري زاده في مصاف مؤتمر طهران العام 1943، الذي جمع لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية ترويكا زعماء الدول العظمى: ستالين وروزفلت وتشرشل، وتم خلاله اتخاذ قرار فتح الجبهة الثانية، الذي أنهى الحرب ضد النازية. وترى الصحيفة، أن الحدثين المميزين في التاريخ ـــــ مؤتمر طهران 1943 والمقتل الحالي للفيزيائي النووي الإيراني فخري زاده، وعلى الرغم من أنه تفصل بينهما مدة 77 عاماً، إلا أنهما قابلان للمقارنة من حيث الأهمية. فالأول والثاني يؤثران في مسار التطور العالمي، حيث لكل بلد أهميته الوازنة. هكذا، لا أكثر ولا أقل: مقتل فخري زاده ومؤتمر طهران متساويان في أهميتهما التاريخية!