الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "الرّبيع العربي" مرآة لزمن لا ينتظر أحداً 

"الرّبيع العربي" مرآة لزمن لا ينتظر أحداً 

05.12.2020
أسامة رمضاني


النهار العربي   
الخميس 3/12/2020 
عاد الاهتمام في وسائل الإعلام الدولية إلى "ثورات الربيع العربي"، وذلك لمناسبة الذكرى العاشرة للانتفاضات الشعبية التي اندلعت شرارتها في تونس في كاون الأول ( ديسمبر) 2010.  
عقد كامل مر. نظرياً يوفر ذلك حيّزاً زمنياً كفيلاً ببداية فهم أفضل لجذور الأزمات السابقة وتبعاتها إلى اليوم.  
في تونس، كما هي الحال بدرجات متفاوتة في دول عربية أخرى، هناك أحداث معينة ساهمت في تسريع الانهيار الذي أطاح نظام بن علي في كانون الثاني (يناير) 2011. 
علاوة على هذه الأحداث، هناك مسار زمني للتطورات الاجتماعية والسياسية. وشكّل تفاعل السلطة مع ذلك المسار عاملاً محدٍداً لتطور أحداث سنة 2011. وما زال هذا المسار وطريقة تعامل السلطة معه، برغم التغير الجذري في الأوضاع منذ ذلك العهد إلى الآن، يشكلان عاملاً مؤثراً في مسيرة الأحداث.  
كانت الأحداث الدرامية سنة 2011 إلى حد كبير انعكاساً لطريقة تعامل السلطة في الزمن السياسي، أي في تحديدها نسق التغييرات التي كان من الضروري إدخالها إبان فترة حكمها بناءً على قراءتها لمستوى تطور الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في البلاد. واعتباراً لكل فرص التدارك والإصلاح الضائعة، تبدو الحكاية أساساً مبنية على سوء التصرف في الوقت أكثر من التعامل البراغماتي مع إكراهاته.  
تونس بلاد محافظة في الكثير من ملامحها. ولكن تلك النزعة المتجلية خصوصاً في بعض الجوانب الثقافية والسلوكية لمجتمعها كانت من جملة العوامل التي أوهمت أصحاب القرار بأن إبقاء الوضع على حاله لسنوات طويلة أخرى ممكن جداً. كان الحكام مغترّين بالصبر الظاهري لشرائح المجتمع المتضررة من البطالة والفقر والتفاوت التنموي بين الجهات. 
 لكن نسق تطور المجتمع وارتفاع سقف مطالبه كانا في الحقيقة أسرع بكثير من نسق تفكير الطبقة السياسية الحاكمة سنة 2010. وكانت رؤية الشباب الذي ضاق به أفق الحياة غير متناغمة مع نسق التغيير الذي كان يمكن أن يقبل به بن علي ومبارك والقذافي وغيرهم. هؤلاء القادة من حكام الجيل القديم نشأوا وتدرّجوا في السلطة في زمن غير زمن الأجيال الجديدة. وتربوا على الاعتقاد أنهم هم من يقرر وتيرة التطور والتغيير. ولكنهم كانوا أساساً يشعرون أنهم غير مجبرين على حث الخطى أو تغيير الاتجاه.  
كان مرد ذلك الى ثقتهم المفرطة في قدرتهم على السيطرة على الأوضاع وإطفائهم نار الحرائق حين تندلع. كانوا مقتنعين بأن على الجميع الانتظار إلى حين يصبحون هم مستعدين للتغيير. وكان البعض منا، من المتفائلين، يداعبهم الوهم بأن الحكام سوف يَرَوْن في نهاية المطاف ضرورة التغيير وأن من الممكن الدفع نحو الإصلاح من الداخل.  
ولكن ترقب إقدام الحكام على التغيير تحوّل تدريجياً سراباً لعدم قدرة هؤلاء أو لعدم رغبتهم في مراجعة مقارباتهم التي انتهت مدة صلاحيتها. لم يكونوا مستعدين للتراجع عن سردية "ليس هناك أفضل مما تم إنجازه". وربما كانوا مدفوعين بحسابات المصالح التي قد تضيع في حال مغادرتهم السلطة. 
إضافة إلى ذلك، لم يكن للقيادات السابقة في تونس ومصر وليبيا ولاحقاً الجزائر وعي بالحاجة الماسة إلى التغيير. فقد تعودت تلك القيادات السياسية على مسار رتيب يستغرق عقوداً طويلة. ولم يكن ذلك المسار يتضمن في أفضل الحالات تغييرات جوهرية بل مجرد رتوش سطحية على المشهد السائد. 
كانت هناك في المقابل أجيال شابة عيل صبرها تطالب بالتغيير الفوري والعميق. 
وهي أجيال لم تعد تكبّلها الرهبة من السلطة بعدما حررت منصات الشبكات الاجتماعية أصواتها وطور انتشار ثقافة الديموقراطية في العالم بدفع من الغرب، طرق التعبير والوعي عندها بمفاهيم الحقوق الفردية والجماعية.  
كانت العقلية السائدة عند الحكام متناقضة، بل متصادمة مع ذهنية مختلفة لدى شباب متعلم وطموح للأفضل، طموح لواقع آخر يتحقق اليوم وليس غداً.  
فجأة لم تعد سياسة "القطرة قطرة" وتنازلات آخر دقيقة تجدي في شيء. لم يعد ينفع الحذر المفرط والخوف من خروج الأمور عن السيطرة جراء أي إصلاح حقيقي. فقد خرجت الأمور بسرعة عن السيطرة نتيجة الإفراط في الحذر والتردد اللذين أجّلا اتخاذ القرارات اللازمة لِغد لم يأت. 
مر عقد كامل اليوم على تلك الأحداث. والمفارقة في تونس اليوم أن الطبقة السياسية التي نشأت بعد بن علي تبدو غير مبالية أو واعية بمرور الزمن وبالأخطار التي يكتسيها تأجيل الإصلاحات إلى ما لا نهاية له. 
وبرغم تتالي ثماني حكومات على السلطة، لم يحصل أي تقدم على صعيد توفير فرص العمل أو تحريك عجلة الاقتصاد أو إصلاح المؤشرات التنموية ونسب تفاوتها بين الجهويات.  
وهي ما زالت تجد نفسها على الضفة المقابلة من أفواج الشباب المحتج الذي يواصل المطالبة بالتغيير الفوري لفائدته ولفائدة جهته، ولا يتردد في الضغط بكل السبل على حكومات لا تتجرأ على الاعتراف بعدم قدرتها على تلبية مطالبه.  
أعتقد أن من المبالغ فيه توقع انهيار الدولة أو أن تصبح تونس دولة فاشلة كما يقول البعض.  
 لكن هناك ما يبرر الخشية من أن يسود اليأس النفوس ويتبدد الأمل في الخروج يوماً من المأزق الحالي. واستطلاعات الرأي تشير بوضوح إلى سأم واسع من الطبقة السياسية ونفور من الاستحقاقات الانتخابية القادمة ورغبة في الهجرة إلى الخارج، وكلها مؤشرات لا تخطئ ولا يمكن أن تفاجئ أحداً. 
 فعندما تتقاعس الدولة أو تعجز هي ومؤسساتها عن إدخال الإصلاحات اللازمة، فهي تفتح الباب أمام دعاة الشعبوية والنعرات الجهوية وكل أنواع المغامرات غير المحسوبة. وتغوص البلاد في أوحال الأزمة الدائمة.  
صحيح أن ما حصل من توسع في حرية التعبير وحرية اختيار من يحكم في ظل الانتقال الديموقراطي للبلاد واضح وجلي برغم نواقص المسار. ومن شأن هذا التطور أن يخفف قليلاً من وطأة الانتظار ويقلل من خطر العنف والصدامات. فلا شيء يهدّئ الأعصاب بقدر توزيع مسؤولية الفشل على رقعة أوسع من المشاركين في ممارسة السلطة. لكن هامش الحرية لا يكفي وحده ليهوّن المتاعب التي يعيشها العاطل من العمل أو تواجهها الجهة المحرومة من فرص التنمية. ولا يمكن أن يعوّض عن غياب رؤية واضحة لكيفية إعادة الاستقرار واستئناف وتيرة النمو الاقتصادي بشكل معقول. 
ما من شك في أن الساسة الجدد يتحملون أكبر جانب من المسؤولية. فعوض الانكباب على المطالب الاجتماعية لمن نزلوا إلى الشارع منذ عشر سنوات، انكبوا على اقتسام السلطة السياسية الجديدة. وكمخرج من خلافاتهم التي لا تنتهي، ها هم يعدّون لحوار وطني جديد قد يكون جدله السياسي أكثر من نتائجه الملموسة على حياة الناس.  
طوال العشرية الماضية لم تترك المناكفات السياسية وقتاً لمراجعة منوال التنمية من أجل تجاوز الهوة التنموية بين الجهويات أو إنعاش الاقتصاد أو تحسين الظروف الاجتماعية للمواطنين المحدودي الدخل. وبقي هؤلاء المواطنون في مربّع الانتظار نفسه الذي كانوا قابعين فيه قبل عشر سنوات. 
لجأت الحكومات الى المسكنات لشراء صبر هؤلاء المواطنين والتعويض عن الوقت الضائع بزيادة الأجور وتشغيل الآلاف من الموظفين الجدد كلما علت أصوات المحتجين في الشارع. ولكن المسكّنات كانت مكلفة واستنزفت إمكانات لا تملكها الدولة التي دفعت ثمنها قروضاً من الخارج يعرف أصحاب القرار كم تصعب شروطها تدريجياً بمرور الزمن.  
كما يعرفون أن تراكمات الزمن، لجهة نسب البطالة والدين الخارجي وعجز الموازنات، تجعل تدارك الوضع أعسر كل عام.  
وسوء تقدير مفعول الزمن له بالضرورة تبعاته. إذ لا يمكن أن يستمر تدحرج الأوضاع من دون أن تصل البلاد إلى القاع. ولا يمكن للزمن أن يتمطط بلا حدود في انتظار أن ينهي الساسة صراعاتهم.  
فالزمن، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، مسار يؤثث بالإنجاز والإصلاح، وتونس قادرة على ذلك، بفضل إمكاناتها البشرية غير المستغلة. لكن ذلك يتطلب طبقة سياسية لها ما يكفي من الحكمة كي تجعل من الزمن حليفاً لها تنجز معه المعجزات وليس عاملاً عرضياً تعالجه بالمسكنات.