الرئيسة \  واحة اللقاء  \  السلفية الجهادية في سورية إلى أين؟

السلفية الجهادية في سورية إلى أين؟

06.09.2014
طارق عزيزة



الحياة
الخميس 4-9-2014
حين أعلنه أبو بكر البغدادي، في 9 نيسان (أبريل) 2013، وما نجم عن ذلك الإعلان من خلافات داخل "البيت الجهادي"، بدا تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، أو "داعش" كما يسميه خصومه، وكأنّه العنوان الأوحد للسلفية الجهادية في سورية.
تمدد التنظيم، المنتمي للقاعدة، من العراق إلى سورية مطلع 2012 باسم "جبهة النصرة لأهل الشام" بزعامة أبي محمد الجولاني، الذي رفض لاحقاً مبايعة البغدادي وإدماج "جبهة النصرة" ضمن "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، واحتفظ بالنصرة مدعوماً من قيادة "القاعدة". لم يمنع الخلاف "العائلي" استمرار عمل جناحي القاعدة في سورية، مع رجحانٍ للبغدادي الذي أعلن "الخلافة"، متمرّداً على "القيادة العامة" للقاعدة: أيمن الظواهري.
على أنّ حصر ظاهرة السلفية الجهادية وخطرها في سورية اليوم فقط بالقاعدة ومتفرعاتها، أو بالمقاتلين الأجانب (غير السوريين: عرب وغيرهم)، وإغفال ما عدا ذلك جهلاً أو تجاهلاً، أو التقليل من شأنه إن ذُكر، فهوَ أمر يجافي الصواب ومشكوكٌ في نيات من يقف وراء ترويجه. الكثير من الجماعات الجهادية الفاعلة سوريّةٌ في أجنداتها وقياداتها ومقاتليها، وخطرها الحالي والقادم على سورية ومستقبلها يفوق خطر القاعدة.
والحال أنّ الظاهرة الجهادية في سورية لا تفسَّر، بدلالة النزاع الحالي فقط، ولا بمجرّد ربطها بالعامل الخارجي، سواء قُصِد به مخابرات القوى الإقليمية أو الدولية، أو دور القاعدة. ولا يكفي الاتّكاء على أوهام الإصرار على شمّاعة مسؤولية النظام دوماً عن كل شيء، وتالياً وقوفه خلف صعود الظاهرة الجهادية وانتشارها.
لفهم الظاهرة وتوقّع مآلاتها يجب الإقرار بأنّ الإسلام الجهادي ليس ضيفاً طارئاً على السوريين، ولا هو أمر غريب عنهم، على ما يحلو لبعضهم. فعلى رغم الفارق في الحجم والشدّة ثمّة في تاريخ سورية المعاصر "إرث" ثقيل غير قليل من النشاط الجهادي يرخي بظلاله على الأوضاع الحاليّة.
في ربيع 1964، بعد عام من وصول "حزب البعث" إلى السلطة في سورية بانقلاب عسكري، وقعت أحداث شغب مناهضة للنظام، أعنفها في حماه. تحوّلت الاضطرابات إلى جهاد ديني، إذ اعتبر "الإخوان المسلمون" أن "حكم البعث الكافر إهانة للذات الإلهية"، والقضاء عليه تكليف شرعي للمسلمين. وترددت أفكار عن الجهاد لإقامة الخلافة الإسلامية. وبين أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات شهدت البلاد تمرّداً إسلاميّاً مسلّحاً واسع النطاق، بهدف تأسيس حكم إسلامي. تصدّر الإخوان المسلمون المشهد أيضاً، وأعلنوا "الثورة الإسلامية في سورية". في الحالتين سيطر النظام على الموقف، ووجدها فرصة لسحق كل أشكال المعارضة.
ولعب جهاديون سوريون أدواراً مهمّة في الجهاد العالمي منذ بداياته في أفغانستان، فاحتلّت سورية المرتبة السابعة من بين 15 بلداً عربيّاً، تنتمي إليها غالبية "الشهداء من المجاهدين العرب" هناك. وصولاً إلى عراق ما بعد صدّام ومروراً بمحطات الجهاد في الجزائر والبوسنة والشيشان.
على المستوى النظري، لم ترتبط أدلوجة "الخلافة الإسلامية" الناظمة للتوجّه السلفي الجهادي، كأكثر وجوه المشروع الإسلامي راديكالية، بتنظيم معيّن أو بحالة ظرفيّة فينتهي المشروع بزوال التنظيم المعني أو بتغيّر الظروف. فرغم إلغاء أتاتورك المنصبَ رسمياً عام 1924، لم تختف إشكالية "الخلافة" من منظومة الفكر الإسلامي. قد يخفت أحياناً تناول الجانب السياسي للمفهوم ويستبدل بالحديث عن "الأمة الإسلامية" العابرة للقوميات وللحدود السياسية، لكن مفهوم الخلافة بكل دلالاته الرمزية والسياسية والدينية ظل محايثاً للخطاب الإسلامي.
يطيب لبعضهم تناول "الفروق" بين السلفيين الجهاديين أنفسهم، كالحال بين تنظيمي البغدادي والجولاني، أو بينهما وبين "أحرار الشام". ويتجاهل هؤلاء أنّ هدف تلك التنظيمات النهائي "الحكم بما أنزل الله"، عبر "دولة إسلامية"، صورتها المثلى "الخلافة الإسلامية". نعم ثمّة فروق في الأولويات وأساليب العمل، أي الاختلاف حول طريقة تحقيق الهدف، لا حول الهدف ذاته، وحول مجال تطبيق المبدأ لا على المبدأ ذاته. "الدولة الإسلامية"، مثلاً، أعلنت الخلافة وبدأت تطبق "شرع الله" في مناطقها. في حين لم تقم "الجبهة الإسلامية" بشيء مماثل، فأولويتها إسقاط النظام، يلي ذلك "إقامة حكم الله على الأرض"!
وتمييز الإخوان المسلمين عن الجهاديين بشكل قاطع، والترويج لاعتدالهم، ينمّ عن جهل فاضح أو تدليس خادع. فما هو معلن عند الجهاديين مضمر عند الإخوان، وأمام استعجال الجهادي تحقيق الهدف يعمل الإخواني بدأب وأناة. وهذا من صلب العقيدة الإخوانية كما صاغها المؤسس حسن البنا الذي عدّ الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، وشعيرة إسلامية يجب الاهتمام بشأنها، لأن "الخليفة مناط الكثير من الأحكام في دين الله". وتحدث عن أسلوب إنجازها واستعادة منصب "الخليفة"، الذي هو "واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض".
بينما كانت "دكاكين" المعارضة السورية، وميليشيات "الجيش الحر" تتخاصم في ما بينها، كان الجهاديون يحققون المكاسب على الأرض، ليصبحوا القوّة الأكثر فعالية وتنظيماً. وحدهم "الإخوان المسلمون" استطاعوا تثبيت أقدامهم في الهيئات السياسية للمعارضة كما في ساحات الجهاد عبر "دروع الثورة" التابعة لهم. وفي مقابل "الجهاد السني المعارض" استنفر النظام "الجهاد الشيعي الموالي"، عبر إشراك ميليشيات شيعية لبنانية وعراقية في القتال ضدّ معارضيه. كل ذلك عزّز الانقسامات الطائفيّة في المجتمع السوري، بتنوّعه الهشّ الناجم عن نقص الاندماج الاجتماعي بفعل الاستبداد المديد. لن يمرّ ذلك من دون أن يحفر مزيداً من الشقوق بين السوريين.
إنّ خطر المشروع الجهادي لا ينحصر بالقاعدة، ولن ينتهي بالقضاء عليها. وغضّ الطرف عن خطر الجهاديين المحليين مقدّمة لتعويم وتسويق من سيوصفون بـ "الإسلام المعتدل". ولا غرابة أن تجد بينهم جهاديين قرروا، ضمن تسويات معينة، ترك السلاح والانخراط في اللعبة السياسية بما لا يخالف الشريعة!. ومع تسيّد الطابع الديني المشهدَ السوري فإنه حتى لو استطاعت "المعارضات" إسقاط النظام، وهذا احتمال ضعيف، لن يحمل المستقبل القريب أو المتوسط التغيير الديموقراطي الذي ضحّى من أجله السوريون بمختلف شرائحهم. فالحاضر ثمرة الماضي والمستقبل هو ممكنات الحاضر واحتمالاته.