الرئيسة \  واحة اللقاء  \  السوريون يستعيدون فردانيتهم

السوريون يستعيدون فردانيتهم

30.09.2013
صبر درويش


المستقبل
الاحد 29/9/2013
لم يعد من شيء بديهي داخل المجتمع السوري، ولا مسلمات مذ انطلقت ثورته منتصف مارس 2011؛ يدخل السوريون في سجالات لا تنتهي، ويختلفون على أدق التفاصيل، وهو دليل صحة المجتمع وعافيته، الذي خنقته سنوات حكم البعث، ودمرت أعظم ما فيه: فردانيته. لم تثر تاريخياً أياً من القضايا الخلافية داخل المجتمع السوري، ليس لأن هذا الأخير مطلق الاتفاق، بل لأن حجم التابوات التي فرضها حكم الأسد، خنقت المجتمع ومنعت أي نوع من أنواع السجالات المجتمعية، حتى أن مفكراً سورياً كأبو علي ياسين، سيطلق على كتاب له أصدره في السبعينيات: "الثالوث المحرم"؛ اليوم يفتتح السوريون نقاشات لا تنتهي، حتى بين أفراد "الصف الواحد"، يخضعون كل شيء للتشكيك والتفنيد، ويبدو أنه لا شيء يعجبهم، فخلف اللوحة القاتمة للأحداث في سوريا، ينمو مجتمع جديد، يضج بالحياة، هناك حيث سنجد الآثار الحقيقية لثورة السوريين.
داخل دائرة الأسرة الواحدة، وعلى صفحات الفيسبوك، بين أوساط الموظفين، وحتى على التلفزة، يدور نقاش حام، حول من المسؤول عن هذا الحجم الرهيب من القتل، ومن وراء استخدام السلاح الكيمياوي ولماذا، هل الثورة طائفية أم طبقية، أم ربما لا هذا ولا ذاك، وهي ثورة كرامة كما يقول كثيرون، ما موقع جبهة النصرة من الثورة، وهل تنظيم دولة العراق والشام، هم استطالة لنظام الأسد، وماهي حقيقتهم بالضبط؟
عائلة أبو سليم تقطن العاصمة دمشق، يقول أبو سليم: "اضطررت إلى شراء تلفزيون ثان، لأن الأولاد كل واحد منهم يريد أن يتابع قناةً مختلفة، لدي من يتابع الإخبارية السورية، ومن يتابع العربية والجزيرة، وأفكر بشراء تلفزيونٍ ثالثٍ للذي لا يتابعون شيئاً. يختم ضاحكاً". في الحقيقة لم يعد يفاجئنا وجود شاب في المعتقل كونه معارض لنظام الأسد، وأن يكون أخوه في الوقت نفسه متطوعاً مع إحدى اللجان الشعبية الموالية للنظام؛ كما لم يعد يفاجئنا السجالات حتى في صفوف المعارضة ذاتها، حيث تدور اليوم نقاشات حامية حول الموقف من التدخل العسكري الخارجي، وأثره على البلد؛ ودور التسليح في الثورة، وأثر التطرف على المآلات المقبلة.. إلخ.
أُخضع المجتمع السوري عبر العقود الماضية إلى تنظيم دقيق للغاية، فمنذ أن يدخل الفرد السوري أول دائرة في الحياة، مغادراً دائرة الأسرة، يجد نفسه في أحضان طلائع البعث، وهو التنظيم الأول الذي أوجده حزب البعث الحاكم للناشئة، هنا يتم زرع أفكار الحزب في العقول الفتية، وتبدأ المسألة بتلاوة الشعار الصباحي الذي يصبح مرادفاً لاسم أي طفل: "أمة عربية واحدة ذات رسالة.."؛ تلي هذه المرحلة، مرحلة "شبيبة البعث" وهي تزامن المرحلة الثانية من التعليم، حيث يبدأ النظام التعليمي بفرض مادتين تعليميتين جديدتين وهما: التدريب العسكري، والتربية القومية، هنا تبدأ العسكرة الحقيقية للمجتمع، فقبل تغيير لون اللباس الموحد لطلبة الاعدادي، كان لون الرداء المفروض على الطلبة هو اللون الزيتي نسميه في سوريا اللون العسكري- وهنا يبدأ قولبة عقول الفتية وزرع أيديولوجيا البعث في تلافيفها. ينطبق هذا الكلام أيضاً على المرحلة الجامعية، حيث على جميع الطلاب الخضوع للتدريب الجامعي، وهو تدريب عسكري بالمعنى الدقيق للكلمة.
بعد كل هذه المراحل، يتخرج جيل من الشبان والشابات المتشابهين، حتى يكاد من الصعب التمييز فيما بينهم، هنا لم يعد من فرد، بل كائن ينتمي إلى قطيع اجتماعي، وهذا كان من أهم انجازات حزب البعث التاريخية، اي تحويل المجتمع إلى قطيع اجتماعي شعاره هو التماثل، حيث تصبح السيطرة على هذا النموذج من المجتمعات أكثر سهولة، بينما القدرة على التلاعب في العقول فتجد هنا ملعبها.
أسهم نظام البعث، في تأخر تطور المجتمع السوري عقوداً طويلة، والمفارقة التي تبرز هنا، أن هذا النظام الذي ادعى الحداثة وتبنيه لمفاهيمها في المجتمع والدولة، أسس لمجتمع ما قبل حداثي، مجتمع أقل ما يمكن أن نقوله عنه أنه مجتمع متخلف، بينما تؤكد هذه الملاحظة، أبسط دراسة مقارنة بين مجتمعنا وأياً من المجتمعات العربية المحيطة، ولا أقول مجتمعات أبعد من ذلك. إذ على المستوى الاجتماعي المعنيين بنقاشه هنا، سيدفع منع تشكيل الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية، الأفراد إلى الانضواء في تنظيمات بديلة، كالأسرة الكبيرة، والعشيرة، والطائفة.. إلخ، وهي أشكال من ارتصاف القوى الاجتماعية الما قبل حداثي، هي أشبه بتجمعات أهلية، كانت بديلاً للمجتمع المدني والمجتمع السياسي. وهي دوائر للاجتماع تعود بتاريخها إلى ما قبل تشكل الدولة الحديثة، وتفرعاتها من مبدأ المواطنة وسيادة القانون.. إلخ.
تتمحور ثورة الشعب السوري هنا بالتحديد، أي أنها "محاولة" الجماعة لاستعادة هويتها، واستعادة الافراد لفردانيتهم، إنه استعادة للمغزى من التنوع والاختلاف، على اعتبار أن الموت في التماثل، بينما الاختلاف فهو حياة الزمن، كما كان يطيب لمهدي عامل أن يردد.
من هذه الزاوية ينتعش المجتمع السوري باكتشاف ذاته المغيبة عبر عقود، وتنفتح أمام أفراده مروحة واسعة من الخيارات اللامتناهية، وهو تقدم ومكتسب أحرزتها الثورة السورية بفضل نضالات شبان وشابات، أثبتوا اصرارهم على المضي قدماً بما بدأوه، وهو طريق إيجابي تسير به ثورة السوريين على الرغم من كل الجحيم المحيط بتجربتهم. هنا سنجد النواة الصلبة لبدأ تشكل المجتمع المدني السوري، والأرضية التي ستتأسس عليها التجربة السياسية المقبلة، وذلك على الرغم من شبح الحرب الأهلية المخيم فوق الجميع.
بداية الثورة، رفض الشبان المنتفضين أي شكل من أشكال التنظيم الكلاسيكي للحراك الشعبي، فابتكروا مصطلح "التنسيقيات"، كما رفضوا الانضواء تحت أي فصيل سياسي، فخرجوا إلى الشارع متسلحين بإيمانهم بأن "غريزة" الحرية كافية في الوقت الراهن كي تكون بوصلة الحراك الثوري؛ ومنذ ذلك الحين لا يكف الشبان والشابات عن ابتكار أدواتهم السياسية، التي تنسجم وتطلعاتهم، خائضين بتجريبية كلفتها باهظة للأجيال الحالية، إلا أنها رصيد هائل من تراكم الخبرات بالنسبة للأجيال المقبلة، بيد أنها تضحية كان لابد منها.
السوريون اليوم ينحتون تجربتهم الخاصة، والتي ستفرض تعديلاتٍ جذريةٍ على الكثير من نظريات علم الاجتماع، وستأسس لمفهوم جديد للفرد، يضع حداً للطغاة في محاولتهم تدجين الشعوب.