الرئيسة \  واحة اللقاء  \  السوريون في بلغاريا: نازحون متعبون وناشطون استنفدوا طاقتهم

السوريون في بلغاريا: نازحون متعبون وناشطون استنفدوا طاقتهم

04.08.2014
تهامة الجندي



المستقبل
الاحد 3/8/2014
لم أذهب إلى مخيمات اللجوء في بلغاريا، لكني سمعت وقرأت الكثير عن أوضاعها السيئة، وبحسب تقارير الصحافي البلغاري بوريس تشيشركوف، المنشورة على موقع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: تتجه أعداد متزايدة من السوريين، الفارين من العنف في بلادهم، نحو بلغاريا، لتصل إلى مراكز استقبال مكتظة وقاسية، فيما تصارع الدولة الواقعة على طرف الاتحاد الأوروبي، من أجل التكيف مع هذا التدفق".
يصف تشيشركوف مراكز الإيواء البلغارية، التي تديرها المفوضية، بقوله: ينام النازحون في الممرات، ويطهون على مواقد رديئة داخل المهاجع المكتظة. كل مئة منهم يتقاسمون حماماً واحداً، التعليم والأنشطة الترفيهية محدودة، وعدة مئات من الأطفال لا يرتادون المدرسة. وكل واحد منهم عليه أن يتدبر أموره المعيشية، بما يزيد قليلاً عن يورو واحد يومياً، للطعام والملبس والدواء، وغير ذلك من الضروريات.
يكتب في توصيف مخيم "هارمانلي" الأكثر ازدحاماً وسوءا، من بين المراكز السبعة الخاصة بإيواء اللاجئين: في السابق كان المخيم قاعدة عسكرية، تقع على بعد خمسين كيلومتراً من الحدود التركية. ومعظم طالبي اللجوء فيه من السوريين. لا يعطي المخيم صورة جيدة عن أوروبا، التي تسعى أعداد متزايدة من اللاجئين السوريين للذهاب إليها، بعبورهم من تركيا إلى بلغاريا، التي هي أفقر دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.
أول أربعمئة وخمسين من ملتمسي اللجوء، سكنوا في أكواخ مسبقة التجهيز، لكن القادمين في وقت لاحق، يعيشون في خيام مُعدّة لفصل الصيف، ويشكون من الطقس البارد، سيما في الشتاء. وما يزيد الأمر سوءاً على السوريين في "هارمانلي" أن مرافق التخلص من النفايات، ومرافق الصرف الصحي، قد بلغت الحد الأقصى من الإجهاد، فعلى الرغم من مرور شاحنات القمامة التابعة للبلدية إلى المخيم يومياً، لا تزال القمامة مبعثرة على الأرض. لكن سكان المخيم أثبتوا سعة حيلتهم، باستخدام النفايات الورقية كوقود لإشعال النار، من أجل الطهي، وتسخين المياه، ومواجهة درجات الحرارة المنخفضة أثناء الليل. بالنسبة للكثير من ساكني "هارمانلي"، يعني استخدام الحمام ليلاً، السير بطول المخيم للوصول إليه، وهو أحد الطقوس غير الآمنة، وغير المريحة. فضلاً عن ذلك، يعاني اللاجئون من نقص الغذاء والدواء، ويحاول البلغاريون، أن يبذلوا ما في وسعهم، إلا أن التبرعات لا تفي بالاحتياجات.
وصلت أول دفعة من اللاجئين السوريين إلى بلغاريا عام 2012، وبعد ذلك توافد الكثيرون، لكن الفوج الكبير دخل العام الماضي، حيث تدفق خلال عشرين يوما، ما يزيد عن اثني عشرة ألف نازح سوري. إلى ذلك ثمة عدد غير معروف من النازحين، الذين لا يقيمون في المخيمات، ولا يتلقون أي شكل من أشكال الدعم. وتبعا لقوانين الدولة البلغارية، يستغرق النظر في طلب التماس اللجوء إليها، قرابة الستة أشهر، وقد يزيد على ذلك. أغلب المتقدمين، غادروا الحدود بعد قبول لجوئهم، وحصولهم على جواز السفر البلغاري، وبعضهم يحاول شق طريقه في البلد، مستعينا بمعارف وأقارب له، مقيمين منذ سنوات طويلة.
انتظر انتهاء تأشيرتي السياحية، حتى أصطف في طابور التماس اللجوء، وريثما يأتي اليوم الموعود، ألتقي بأبناء جلدتي، كي أشعر بكينونتي في البلد الغريب. لا تبدو لي الجالية السورية كبيرة في بلغاريا. معظمها من طلبة العلم والنضال في زمن الشيوعية، الذين تحوّلوا إلى تجار ورجال أعمال، في عهد الانفتاح والانضمام إلى الاتحاد الأوربي، يُضاف إليهم المعارضون المخضرمون، الذين أبوا العودة إلى عرين الأسد، وأولئك المنحدرون من زيجات مختلطة ما بين السوريين والبلغار، فالعاملون في سلك الدبلوماسية السورية، ثم اللاجئون الجدد، ومعظمهم في سن الشباب.
كما هي الحال في كل مكان، يتواجد فيه السوريون، داخل وطنهم أم خارجه، فقد فرزت الثورة المقيمين في بلغاريا إلى صفين -انصارها والموالين للنظام- واستطاع الأنصار، أن يؤسسوا رابطة خاصة بهم، ويرفعوا علم ثورتهم، على واجهة مقرها، حيث يلتقون ويتعارفون، ويقيمون أنشطتهم المتواضعة، وقيل لي، إن الجالية السورية، كانت الأسرع والأنشط في بدايات الحراك السلمي، والرابطة هي الوحيدة من نوعها في أوروبا.
وكما حدث في كل مكان، تبين لي، أن حماسة أنصار الثورة، تراجعت إلى حدودها الدنيا، ودب الشقاق في ما بينهم. معظم من التقيتهم بمحض المصادفة أو بموعد مسبق، في مقر الرابطة أو في أي مكان آخر، سيما أولئك المعارضين المخضرمين، كانوا لا يتورعون عن الإساءة لبعضهم البعض، وكنت أشعر بالمزيد من السخط، حين يفاجئني أحدهم بالحديث عن دوره الريادي في تاريخ المعارضة السورية، وعن أحقيته في قيادة الثورة، على أولئك المنشقين الفاسدين، أو أولئك الثوار الجدد، الذين استحوذوا على كل المناصب والأموال. أكاد لا أصدق، ان هذا كل ما يشغل بالهم، في الوقت الذي يُباد فيه السوريون بكل انواع الأسلحة، ومن كل الجهات؟
هؤلاء لم يستفيدوا من الفرصة التي وهبتنا إياها الثورة، أن نراجع ذواتنا وتجاربنا بعيون جديدة، لا يزالون ممسكين بالمنطق الإقصائي، ذاته الذي صنعه حكم "البعث"، تعظيم الذات على حساب تقزيم الآخرين. ولا أدري، لما ذكرني بعضهم بتعبير الفقّمات الثقافية؟ لا يزالون يعتقدون ان على المثقف، ان يكون مصقولا كالكتاب، وإذا فتحته، تنهال عليك الاقتباسات الأدبية والفكرية، كطلق الرصاص، وبعضهم ينسى انها اقتباسات، وينسبها لنفسه. ومن دون تخطيط وجدتني أميل إلى اللاجئين الجدد، المتعبين والخائبين مثلي.
على خلاف مثقفي المعارضة، أبو كمال لم ينهِ دراسة الصف الثامن، كان يدير محلا لبيع الفلافل في حمص، قدم إلى صوفيا أوائل عام 1991، وافتتح محلا لبيع الشاورما، انتعشت اعماله وتوسعت، وجنى أرباحا لا بأس بها، حاول أن يوظفها في مسقط رأسه، عاد إلى سوريا عام 2002، واشترى مقسما من العقار رقم 955، الذي يقع على نهر العاصي، والذي دخل حيز الأراضي السياحية ضمن مخطط المدينة، بعد أن كان في عداد الأراضي الزراعية، وبذلك ارتفع سعر المتر فيه من مئة إلى مئة ألف. وكما أخبرني، حاولت عصابة رامي مخلوف الاستحواذ على المقسم، واضطر إلى مغادرة البلد، وقبيل الثورة بقليل، اتصل بأهله للاطمئنان عليهم، فأخبروه، أنه بات يُصنّف في عداد من يهددون الأمن القومي. قال لي: "والله ما كنت بعرف، شو هاد الأمن القومي، كيف بدي هددو؟".
أبو كمال الحمصي، صاحب مطعم الـ"ميماس" في صوفيا، يتمتع باحترام كل السوريين الذين التقيتهم، يجمعون على شهامته وسخائه، في تقديم كل أشكال العون للنازحين والنشطاء. يقولون إنه ينفق من ماله الخاص عليهم، حتى كاد ان يفلس. كان يمد المتظاهرين بأعلام الثورة، والمعتصمين بوجبات الطعام، وعلى نفقته أرسل فريقا من التلفزيون البلغاري، مرات عدة لتصوير حقيقة ما يجري في سوريا. يقولون أيضا إن ابنته مصابة بالفشل الكلوي، وأثناء الثورة خسر كل رزقه في حمص، واثنين من أولاد خالته، أرداهما رصاص القنّاص.
يتحدث أبو كمال على سجيته، ولا يزال يحتفظ بلهجته الحمصية القحّة، ومثل كل الحماصنة، روح الدعابة والنكتة حاضرة بالفطرة لديه، وحين دعاني إلى مكتبه في الطابق العلوي من مطعمه، فوجئت بمجسّم ساعة حمص، وعلم الثورة السورية، يغطي الجدار من خلفه، أغدق عليّ بالضيافة، واكتفيتُ بقهوته وتبغي، وحين قدمّت له سيجارة، قال: أنا صائم.
استوضحت منه، كيف كانوا يريدون أن يخلصوه مقسمه، قال: مقسمي واحد من خمسة مقاسم في عقار رقم 955، المكون من "ديك الجن"، "الميراندا"، "الغاردينيا"، و"الأهرام"، وبالقانون السوري يجب أن يبقى العقار في عدة مقاسم. عصابة عبد الناصر ناصيف اشترت "الغاردينيا"، ورغبت بالاستحواذ على كامل العقار، وكانوا يريدون أن يخلصوني مقسمي، رفعت دعوى قضائية عليهم، ودخلت المحاكم لمدة سبع سنين، ودفعت سبعمئة ألف دولار، ونزلت الدعوى في كتاب غينيس كأكبر معاملة قضائية في التاريخ. وفي المحصلة النهائية استطاعوا ان يستصدروا حكماً بإزالة الشيوع عن العقار، وبيعه بالمزاد العلني، فهربت إلى بلغاريا عام 2008، حتى لا يتمكنوا من تبليغي بالحكم".
زفر طويلاً وأضاف: كان محافظ حمص، إياد غزال متواطئاً معهم، وتجاهل كل تقارير لجنة الرقابة والتفتيش، التي كانت تصب في صالحي. ومن المعروف ان ثلاثة أرباع المتظاهرين في حمص، خرجوا نقمة عليه. كنا نسميه الوالي، ورفعنا عرائض كثيرة إلى بشار الأسد، أن يعفيه من منصبه، وفي كل مرة كان يجيبنا "يا ريت، لو كان لديه أربعة عشر محافظاً مثله"(عدد المحافظات السورية) .
أمن أجل العقار 955، وقفت إلى جانب الثورة السورية؟ سألته، قال: أبدا، وقفت مع الثورة، لأجل أهلي وشعبي، وقفت مع ضميري. لم أنم خلال أيام ثورة مصر، كنت انتظر أن تبدأ ثورتنا فور سقوط مبارك. كان هناك مؤشرات، ان الشعب السوري، بدأ يصحو من كبوته، ويريد أن يسترد كرامته.
سألته هل تدعم الثورة بصفتك الشخصية أم التنظيمية؟ رفع يديه إلى الأعلى مستنكرا، وقال "أنا شخص بسيط، لا عندي تنظيمات، ولاني دارس، وقبل الثورة ما كنت بعرف شو معنى المعارضة". تعلمت من النشطاء معنى الحراك السلمي، وعلمتني الثورة أن أنتسب لشعبي وقضيتي فقط. سأنتظر النصر، مهما طال قدومه، ولن أفقد الأمل، سنوات الديكتاتورية لن تعود.
"حدثني عن مفارقة طريفة حدثت معك، وأنت تساعد النازحين"، قال: جاءتني امرأة حامل، في شهرها التاسع، ورجتني أن أشتري لها تذكرة سفر إلى ألمانيا، حتى تلد هناك، ومن غير تردد، قدمت لها المبلغ، وسافرت على الفور، لكن لسوء طالعها، وضعت مولودها في رومانيا.
عند أبو كمال التقيت بأزهار العمر، أخت صديقتي أسرار، درست التمثيل في معهد الفنون المسرحية الـ"الفيتس"، وكانت تنتمي للحزب الشيوعي السوري، وتم تجميد عضويتها لأسباب أجهلها. لم تغادر صوفيا بعد تخرجها عام 1991، ولم تعمل في مجال اختصاصها. انشغلت بالترجمة وتدريس البلغارية للأجانب، وقدمت عدة عروض مسرحية للأطفال في المدرسة، بصفة تطوعية، تزوجت من رجل بلغاري، وأنجبت وحيدها سفتلو، الذي بات يبلغ من العمر أربعة عشر عاما.
أزهار امرأة متحررة جدا، اجتماعية ومرحة، قالت لي ونحن نتسامر: انفصلتُ عن المجتمع السوري بسبب الديكتاتورية، التي تجثم على قلوبنا، كنت أسافر إلى سوريا، فقط من أجل أن يتعرف ابني على أقاربه، وكان قلبي ينقبض دوما على الحدود، وأتساءل، ماذا لو اعتقلوني أمامه، كيف سيعيش هذه المأساة؟ قلت لها: لست وحدك ياعزيزتي، كلنا نرتعد خوفا على الحدود السورية.
حين انطلقت الثورة، كانت أزهار واحدة من أول خمسة عشر شخصا، خرجوا للتظاهر أمام السفارة السورية في صوفيا، مباشرة بعد حادثة أطفال درعا. ذكرتْ لي، أن التظاهرة استمرت لساعة ونصف، وأن البلغار كانوا أكثر من السوريين، والإعلاميين كانوا أكثر عددا من الجميع، وكان ثمة من يصور من داخل السفارة، ويرفع التقارير إلى الجهات الأمنية المختصة. بعض المتظاهرين السوريين تلقوا تهديدات بالإساءة إلى ذويهم في سوريا، أما أزهار فقد تعرضت إلى سخرية أحد مذيعي قناة الدنيا الذي لقبها بالراقصة.
الطفولة قيمة مقدسة في بلغاريا، قالت أزهار، والوحشية التي تعرض لها أطفال درعا، جعلت الإعلام البلغاري يقف إلى صفنا، كنا صادقين، وكان بيننا من له أقارب أو معارف، من أولئك الأطفال الذين تعرضوا للتعذيب. كان وزير الخارجية حينها، نيكولاي ملادينوف، يشعر بالخوف من تداعيات العنف في سوريا، ويقف إلى جانب المتظاهرين السلميين، وأبلغ الاتحاد الأوربي بمخاوفه، وكان آخر وزير أوروبي، سافر إلى سوريا، والتقى ببشار الأسد، ودعاه لوقف القمع، والبدء بالإصلاحات الجذرية، لكن الإعلام السوري الرسمي، صور زيارة الوزير البلغاري، وكأنها جاءت لدعم الرئاسة السورية، ومساعدتها في القضاء على الإرهاب المزعوم. حينها بعثنا برسالة مفتوحة إلى ملادينوف عبر الفايسبوك، نعلمه بالتحريف الذي تعرضت له زيارته. فأعاد توضيح موقفه أمام الإعلام.
تضيف أزهار، المظاهرات التي خرجت في بلغاريا، أكثر من أي دولة أوروبية أخرى، ولم نخرج فقط للهتاف والتنديد، كان همنا كسب الرأي البلغاري، وكانت كل تظاهرة، أشبه بعرض مسرحي، لبسنا بلوزات موحدة، وحملنا علم الثورة بطول ثلاثين مترا، قدمه لنا أبو كمال، نظمنا اعتصامين، الأول أمام السفارة السورية لثلاثة ايام، وكانت درجة الحرارة، سبع عشرة تحت الصفر، والثاني أمام السفارة الروسية، وكانت الحرارة خمس وأربعين درجة.
كنا نستيقظ في الخامسة صباحا، حتى نصل المخيمات في العاشرة، ونوزع المعونات على اللاجئين، أقمنا عدة عروض مسرحية، وألعاب للأطفال، وفي عيد الطفل العالمي، علقنا بوسترات كبيرة في كل شوارع صوفيا، كُتب عليها "نحن أطفال سوريا، نريد ان نشارككم الاحتفال".
من أنتم، ولماذا تتحدثين بصيغة الماضي؟ سألتها، قالت: نحن أكثر من خمسين متطوعا، من السوريين والبلغار، كل أنشطتنا كانت تطوعية، "بس طوّلت كتير. تعبنا وفلسنا، واتهمونا بقبض الكثير من الأموال، ما شفنا منا شي".
-لا أصدق، ألم تتلقوا أي دعم من البلغار، أو أية مساعدات؟
-بلى، أعرف مسؤولة علاقات عامة بلغارية، كانت توجهنا، وترشدنا في كل نشاط قمنا به. آننا بوشكوفا، أمها روسية، وحالتها المادية فوق الريح، قدمت مساعدات ثمينة جدا لنا. وصلتنا حافلات مليئة بالألبسة والمواد الغذائية التي تبرع بها البلغار. نائب وزير الصحة، اتصل بي، من أجل طفلين مصابين بمرض جيني نادر، يبدو كأنه جرب، وحين وصلت إلى المستشفى، وجدت ثلاثة أطباء بانتظاري، أولهم اسحاق، قلت له: نحن أولاد عم، قال: لا، نحن أخوة فرقتّنا السياسة. استلم الأطباء الطفلين، واهتموا بهما، ثم أرسلوهما إلى ألمانيا لمتابعة العلاج. لكن كل هذا الدعم المادي والمعنوي، لم يكفِ لسد اليسير من حاجات اللاجئين.