الرئيسة \  واحة اللقاء  \  السوري الأخير

السوري الأخير

10.12.2014
عيسى الشيخ حسن



الشرق القطرية
الثلاثاء 9-12-2014
يجري أمام الموت ويصمت، يركض وراء الرغيف ويصمت، يكتب تاريخ اليوم على الجدار، يشاهد نشرة الأخبار، ويصمت. السوري الأخير؛ يحدب على موته بهدوء، كأنه يحتسي صمته مع سندويتش الفلافل، السوري الأخير يسمع الأخبار ويصمت، ويقرأ الصحف ويصمت، ويشاهد الاتجاه المعاكس ويصمت.
يحمل لحافه في اتجاه شتاء جديد، ويخصف نعل المأساة لأنها ستنتظر الشتاء معه، ولايجد وقتاً لا لشتائم الآخرين، ولا لبيع الأمل في دكاكين السياسة، ولا للصخب العالي في حضرة الصاروخ.
لايهزّ شجر الذكريات، فقد تموّن منها بما يكفي لمنفى بكامل عذاباته، لا يلتفت إلاّ لكي يتهجّى اسمه بين صخرتين، لا يقرأ الجريدة إلا ليبحث عن خبر توقف الحرب، يفتح صمته على مهل ويقرأ أسماءهم: أسماؤهم؛ نغمات خفيفة، تستفزّ الصور التي صارت بالأبيض والأسود، أسماؤهم؛ غيمات تمطر بهدوء على عتبات الروح. أسماؤهم التي رحلت معنا في نزف المكان، أسماؤهم التي اندسّت في الحقيبة، أتهجّاها مثل كلمات جديدة، كلمات مقروءة بنبرة طالب يسمّع بقلق (النشيدة) بيدين مرتبكتين تتعثران بالهواء. أسماؤهم؛ التي هنا في حقيبة السفر، تنطوي بسهولة، وتنام.
السوري الأخير يتقن صمته، لأنه اختبر دون قصد الكلام المعلّب، و فظاظات الحنين، وأغاني الحزن العاجزة. هو يصمت وينظر إلى الأعلى بعينين تثرثران كثيراً، وتنتظران كثيراً.
السوري الأخير؛ بلحافه وجواز سفره الملتبس، وبهجته المستعارة بعد تجاوز معبر، وطمأنينته المصطنعة بعد وجبة في مضافة للأمم المتحدة، أو أي تكية جديدة، يكتفي بالصمت حين تمطر وحين تثلج وحين يخبّئ أهل البيت أوطانهم في جيوبهم.
سيمنحك صمته عندما يشتمك، ويمنحك صمته عندما يشكرك، وسيمنحك كلّ صمته حين يتهدم المنفى في أضلاع الغرباء، وحين ينمو حزن صغير في باص، حين يسمع شيئاً عن كلمة syria. سيذهب إلى عمله مغمض الروح، سيذهب إلى نومه مقصوص الحلم، إلى صمته موفور الحزن.
السوريّ الأخير كالموريسكي الأخير، كالهندي الأحمر الأخير، يحمل أمانات يجب أن يوصلها لأهلها؛ وشكر الأصدقاء والأعداء الذين لم يقصّروا معه في المحنة، وإطفاء آخر الأنوار.
السوريّ الأخير يكتب عنّا الملهاة المأساة، وهو يحدب على موته بهدوء، ونحن سنتقاسم ثيابه ولغته ومظلوميته، نحن السوريين سابقاً، نحن الورثة.
يا الأخير؛ يا نحنُ، يا وجداننا المحبوس في انتظار البحث عن الجثث، يا صريخنا عند الغارة، يا خطّ العرض الأخير في دليل طيران القلب، كلّ منفىً يأخذني إليك، وكلّ ليلى تأخذني إلى مجانينك، "وكلّ ما فوق التراب تراب".