الرئيسة \  واحة اللقاء  \  السوري وسؤال الذات

السوري وسؤال الذات

21.01.2016
رامي نصرالله



الحياة
الاربعاء 20/1/2016
يمتاز الإنسان بأنه الكائن الوحيد على وجه الأرض الذي يدرك ذاته وفرادته، ويجعل من الذات موضوعاً فيتأملها ويبحث فيها وفي علاقتها بالآخرين، وفي كيفية بناء مجتمع يحقّق فيه ذاته ويستثمر إمكاناتها.
وإن كان سؤال الذات قديماً قدم وجود الإنسان، فإن تجديد طرح السوريين له بعد استقلالهم عن الفرنسيين، شكَّل حراكاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً بدأوا من خلاله التعرف على مكوناتهم المتنوّعة وسبل بناء مجتمعهم ودولتهم الشابة وأفق المواطن فيها. لكن قصور الحالة الاقتصادية والإدارية حينها، وعدم نضج انسجام النسيج الاجتماعي، وعدم الاستقرار السياسي، بخاصة مع تدخل الدول واستخباراتها، والمد القومي والأيديولوجي، والصراع العربي - الإسرائيلي، ذلك كلّه صعّب عملية البناء وتشكيل الهوية وتحقيق توافقاتٍ سياسية وسيادية، لا سيما بعد تململ الطبقة الوسطى من اللااستقرار الحاصل، الأمر الذي مهَّد الطريق لتدخل العسكر بانقلاباته على النقاش السياسي، بعد فشل السوريين في بناء استقرارٍ حر لاستقلالهم. فالتحرر من الاستعمار يختلف عن الحريَّة بما تعنيه من المسؤولية عن الذات أولاً.
"- رفيقي الطليعي كن مستعداً دائماً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد والدفاع عنه.
- مستعدٌ دائماً".
بذلك الشعار المدرسي السائل والمجيب، اختزل البعث النقاش السياسي وبناء الإنسان وذاته، ملقناً الشعب والطلاب شعاراته حتى قبل أن يدخلوا إلى صفوفهم لتعلّم أحرف الأبجدية التي صدّرها أجدادهم الى العالم. فعاش السوريون خمسين عاماً خارج الشأن السياسي، واعتُقِل النقاش، وسوِّيتْ الأسئلة والأفراد الطارحون لها، وفُرضت أجوبة السلطة، وتحوّل المجتمع إلى تجمّع سديمي للجماهير، يتساوى فيه الجميع، لا لقانونٍ يساويهم بل لأنهم لا شيء، لا ذوات، بل كتل من أفراد سلبيين منعزلين منطوين على أنفسهم، يركضون وراء لقمة عيشهم من دون أسئلة، منتظرين مكرمات السلطة. وغدا القانون كالفرمان المسلّط عليهم، شُكِّلوا وفق مقاسه بدل أن يشكَّل وفق إرادتهم. وباتت الفضيلة محاباة السلطة، والأخلاق أخلاقها، والضمير الفردي ضميرها التسلّطي المحدِّد للخير والشر، والمتكلم باسمها حتى في غيابها، فوعي الذات بضميرها وبصوتها الداخلي هو شر الشرور، وإغضاب السلطة كفيلٌ بالطرد من مملكتها كطرد آدم من جنته، ليحيا الفرد في كبتٍ ذاتي لنفسه يعيق التفتح العفوي لطاقاته، متحولاً إلى آلة تعمل باسم سلطةٍ عليا، ما يجعله مغترباً عن نفسه غير معتد بها، فلا يقوى على الحب الحقيقي ولا بناء العلاقات الإنسانية الحقيقية، أو يحيا في عزلةٍ مغترباً عمن حوله. الأمر الذي لا ينتج إلا الوشاة والمتسطحين وضحاياهم.
وبذلك تناقض تحقيق الذات مع تحقيق رضا السلطة إلا في هوامش ضيقة مسموح بها، وابتعد الفرد من شخصيته. ولم تفلح الأحزاب المتبقية وأيديولوجياتها والهيئات الدينية في كسر تلك الحلقة، بل كانت تصارع لاستلاب الفرد هي الأخرى لا لتحريره، الأمر الذي يفسر مشاركتها السلطة اليوم في اندهاشها وريبتها من صرخة التحرر بعد أن شاركتها النظرة إليه كتابع لا كذاتٍ مستقلة.
عاد سؤال الذات للسوريين مع ثورتهم مجدداً، فلا يمكن سلطة مهما استبدت أن تصادر وعي مجتمع بأكمله، وكان لا بد لازدراء الذات أن ينفجر كاسراً أصفاد السلطة دفعةً واحدة صارخة، فلا مقدمات تمهيدية أو نقاش سبق تحررها، بل اندفاع فجائي لقواها الكامنة التي بدأت تتلمس مكوناتها رويداً رويداً مع كسر كل قيدٍ للسلطة، ليخرج الفرد عن كونه شيئاً تابعاً ويغدو كائناً خلاقاً يمتلك قواه ويرسم دولته وأفق الفرد فيها، معيداً للأنا اعتبارها وحقها في التعبير، والمساهمة في تشكيل علاقاتٍ حرة غدا أفرادها أحراراً.
لكن ازدياد العنف والقمع بطريق التحرر أعاد الفرد إلى عزلته التي لم يلبث الخروج منها بعد، بل زاد في هروب البعض إلى قوقعة النظام أو مسايرته هرباً من عنفه، أو الهروب منه سواء إلى مناطق داخل البلاد أو إلى خارجها، بحثاً عن أرضيةٍ خصبةٍ لانطلاقة الفرد، غير آبهٍ بكل أخطار الطريق، رفضاً لتقييده مرة أخرى بعد أن رفضت البلاد أن يكون مثلما يريد أن يكون.
أخيراً، لا تحقيق لذات السوري إلا بتحقيقه نظاماً يؤمن بالإنسان وحياته وسعادته، ويؤمِّن له ذلك. يتيح له إمكان العيش في حياةٍ غير مقيدةٍ، يرسم من خلالها كيانه بحرية بعيداً من الشعارات التي صادرته واغتربت به طويلاً. يستخدم فيها قدراته، لا من أجل أي قصدٍ يفوق الإنسان، بل من أجل ذاته، ومن أجل بناء مجتمع لذوات حرة مستقلة تساهم في رسم شأنها العام، لا أشياء مسيرة خائفة محرومة من نقاش مصيرها. ويبقى شرط تحقيق ذلك استثمار القدرات الإيجابية للإنسان، والحرية أولاً وأخيراً.