الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الشرق الأسود (القديم والجديد)

الشرق الأسود (القديم والجديد)

08.05.2013
سمير عطا الله

النهار
الاربعاء 8/5/2013
كان ياسر عرفات يحذر في بيروت من بلقنة المنطقة. مجرد استعادة ادبية لاعطاء احداث النهار بعداً تاريخياً. لكن حرب لبنان التي سوف تقع في ما بعد، لم تكن بلقنة. ولا حرب يوغوسلافيا عام 1991 كانت حرب البلقان. ما بدأ يجري في سوريا الآن، قد يكون نسخة عن بلقنة اوائل القرن الماضي: نزوح الجماعات، ملايين اللاجئين، تغير الحدود، تفجر عروق العرقيات، وعجز تركيا الحديثة، كما عجزت اسطنبول 1912و 1913، عن إحداث أي تغيير او انتصار.
يتذكر الارمن كل 24 نيسان يوم الابادة من غير ان نحاول مرة معرفة ماذا يريدون ان يتذكروا حقاً. هذه السنة استعادوا احزانهم فيما يتفقد احوالنا السيد ميخائيل بوغدانوف، موفد روسيا الى عموم لبنان. وقد سرَّ بجولاته المسرورون. وطفق خبراء التاريخ يقارنون بزمن القياصرة ويفلفشون بسرعة في الروزنامات، لتأكيد معرفتهم بثنايا التاريخ وقضاياه.
عدم المعرفة فظاعة. نسي حماة مسيحيي الشرق ان الابادة الارمنية كان سببها عقد الحلف مع القيصر. وخلاصة الأمر ان الارمن كانوا شعباً بالغ النجاح، محسودين في كل شيء من جميع الخاملين. لذلك كانت الابادة تنتظر ذريعة. وبما ان تركيا "الترقي" كانت محكومة من ثلاثة سفاحين، طلعت وانور وجمال (جميعاً باشاوات)، فقد واجهوا سعي الارمن الى الحرية، بما واجهوا السوريين واللبنانيين. لم تكن النتيجة ابادة الارمن واعدامات دمشق وبيروت، بل كانت مقتل الثلاثة على الطرق في ديار الآخرين، وسقوط الاستانة. الغباوة كارثة مزدوجة.
ولكن بعد ماذا؟ بعدما تركوا بغباوتهم العسكرية والسياسية ملايين القتلى والمشردين والانتقامات والفقر والمجاعات والمذلات. الارمن الذين وصلوا الى حلب ودمشق وبيروت، بلغوها على اقدامهم، قوافل تُجوَّع وتُعذَّب وتُهان. نحن نعرف ان جزءاً من شعبنا ارمن، ولا نعرفهم، ولا نعرف شيئاً من تاريخهم، ولا يهمنا منهم سوى موسم المتن.
اذ يرى "مسيحيو الشرق" الخلاص العبقري بالعودة الى عهود القياصرة، يحسن بهم ان يدركوا ان نصف مسيحيي سوريا قد تركوها. النصف الباقي يبحث عن طريق. الآن، بكل حزن، يمكن استخدام مصطلح "البلقنة" لهواة الادب المقارن.
هذا شرق دموي اسود ودائم الاحزان، دائم الانتقامات وخالي الحكمة. سافرت مرة الى سالونيكا بحثاً عن تاريخها فشعرت انني لم اغادر تاريخ بيروت، او دمشق، او اي مدينة مشرقية. سماها الكاتب غيورغوس ايوانونو "عاصمة اللاجئين". في نهايات القرن التاسع عشر كانت قد استقبلت اليهود الروس والتتر والشركس ومسلمي البوسنة وكريت. ولجأ إليها الارمن هربا من البلاشفة والاتراك (1) معاً، وتجمع "الروس البيض" في الثكن العسكرية التي أخليت في الحرب العالمية الاولى، وظلوا فيها حتى اوائل الستينات. وانضمت إليها موجات من الاكراد ومن جورجيا.
وصف ارنست همنغواي، مراسل "تورونتو ستار"، احدى قوافل الهاربين الى مقدونيا عام 1922: "يبلغ طول الطابور الذي يعبر نهر ماتيزا عشرين ميلاً من العربات التي تجرها الثيران وجواميس المياه، ومن الرجال المتعبين والنساء والاطفال، يُغطون رؤوسهم بالاحرمة ويسيرون عميانا تحت المطر ومعهم ما بقي لديهم من متاع دنيوي".
كان ذلك في ذروة الرعب، بعدما قتلت قوات "العلماني" كمال اتاتورك 40 الف يوناني وارمني في ازمير بدم بارد، واحرقت المدينة الى رماد، ووقف ربع مليون نازح في الميناء ينتظرون السفر الى اي مكان. تبادل اليونانيون والاتراك القتل والظلم والذل والتجويع. وسوف يكتب شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت قبل وفاته في برلين 1961 عن المدينة التي ولد فيها عام 1902: "بعض الناس يعرف كل شيء عن النبات / البعض عن السمك / أنا أعرف عن الفراق".
هذه مدينة غريبة، مثل الاسكندرية، يولد فيها مشاهير العالم: ناظم حكمت وكمال اتاتورك وشيشرون. اما مواليد الاسكندرية فالمكان لا يتسع. لكن مثل سالونيكا مثل الاسكندرية مثل ازمير، تغطي صور الهاربين واللاجئين كل شيء آخر. لا قصائد حكمت ولا شعر قسطنطين كفافي، الذي قيل انه للاسكندرية ما هو بيساو للشبونة. هذه مدن اصحابها رجال الموت، لا الشعراء. تجَّار البؤس ودعاة الدم وجلادو الاحلام والهدوء والاستقرار.
هذا هو الشرق ولم ولن يتغيَّر. ارض قايين وهابيل. منبت الجريمة الاخوية. صالب انبياء المحبة. يجب ان تزور المقبرة التركية في سالونيكا. سوف تعرفها من الطرابيش المحفورة. ويجب ان تزور المقبرة اليونانية والارمنية، وسوف تعرفها من الاسماء. هذا الشرق هو الأمة الوحيدة التي تضع المذهب على الهوية. بمذاهبكم تُعرفون. وبها تُقتلون. وبها تُشردون في ديار الآخرين، اذلاء ولا تجيدون سوى الموت والخداع وتكرار ما علمكم الجلادون، كما يقول ابن خلدون.
إليكم طلعت وانور وجمال. جميعهم باشاوات. عسكريون اغبياء قوضوا الامبراطورية قبل ان يقتلوا رعاياها. شردوا الناس ثم طفقوا في بلاد الناس يعرضون خدماتهم في المهنة الوحيدة التي يعرفونها: التجويع والقتل والاضطهاد والغلظة في الخلق.
الروس لا ينقذون مسيحيي الشرق. ليس بأكثر مما انقذهم الغرب والقناصل. ينقذهم خيار واحد وهم لم يتخذوه لأن زمن الحكمة صار في زمن آخر. انقاذهم الوحيد كان في التزام قضايا الامة تماماً والتزام الحياد بين المسلمين كلياً. ففي هذا الباب ليسوا أكثر من فواصل صغيرة لها مهنة واحدة: اما ان تساعد في اللحمة وإما ان تلتزم ادبياتها. ولكن عندما يغيب زمن الحكمة يقوم زمن الثرثرة. والثرثرة طريقُ الخراب.
لم تعط سوريا وزير دفاع مسيحياً إلا عندما أوكلت الى الجيش مهمة مواجهة الناس. وزير الدفاع السابق، مصطفى طلاس، كان يصرح ويكتب في مذكراته، بكل ارتياح، ان المسيحيين لا يعطون مهمات وطنية دقيقة لأنهم لا يوثقون. وزير السياحة في سوريا كان غالباً مسيحياً، ووزير التموين في مصر كان دائماً القبطي رمزي استينو. وعندما كتبت ذلك على سبيل النكتة التي يرددها المصريون، كتب الاستاذ سامي شرف مدير مكتب عبد الناصر، موضحاً ومعترضاً وبكل ادب. لكن الرئيس محمد مرسي يقول لـ"الجزيرة" قبل اسابيع، في سلسلة من الكليشهات الرتيبة، ان "الاشتباكات بين الاقباط والمسلمين ليست طائفية". "أومال أيه سيادتك؟ فلسفية؟".
هذا شرق موبوء. غرائز وطوائف ومذاهب ودماء وتشرد بلا نهايات. وشرق كاذب مخادع لم يتحدث مرة لغة الصدق. نحن الآن نتحدث بكل تلقائية عن خمسة ملايين لاجئ سوري. نحن نتحدث عن الحرب الاهلية في العراق وفي لبنان وامتداد حرب سوريا الى الاردن وكأننا نقرأ نشرة الطقس. نحن اقحاح بمعنى القحة والجلوزة والتخلف. والجهل مصدر كل شيء، لذلك قال المتنبي، مناشداً، "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم".
لقد جاءنا دين براون يعرض مخيمات اسمنتية جاهزة في بوسطن. الى هناك كان يذهب مهاجرو القرن التاسع عشر المصابون بالسل والرعب. احدهم كان الطفل جبران خليل جبران، وأمه كاملة واولادها بطرس ومريانا وسلطانة، وسوف يموتون إلا مريانا، بالسل والفقر، وتبقى وحدها الى جانب جبران، اشهر من هرب من عتو هذا الشرق الاسود الدامي مشتِّت البشر ومهجِّر الامهات وموزِّع الموت على الاطفال باكياس النايلون.
أول الحرب غضبت "الشرقية" من الأرمن لأنهم لم ينضموا إليها. عرضوا على الارمن خطأ وجوديا آخر وكارثة بشرية أخرى. لم يكلف احد نفسه ان يعرف شيئاً عن الارمن، ابعد من تجنب المرور في برج حمود. يتذكر الارمن وحدهم ابادة طلعت باشا، الا ممن يشرفهم احياناً من سياسيي المتن.
شارك الروس في محادثات السير سايكس والمسيو جورج-بيكو، ثم تخلوا عن ترتيباتها. والآن يصرون على دور ومكان وقواعد كي لا يرسم سايكس المعاصر الخريطة منفردا. هل تلاحظ شيئاً؟ اجل، اللعنة على التاريخ. الجميع يتجاهلون، مرة اخرى، موضوع فلسطين. كأنها لم تعد في حساب احد. كل واحد ملهي بنفسه وبتوزيع اراضيه وبشتات لاجئيه. تبدو فلسطين قضية تحتمل التأجيل امام ضغوط الكوارث والنكبات الطارئة في كل مكان. وفلسطين لم تعد قضيتها ما تعتقد جنابك انه قضيتها. المسألة الكبرى الآن وجود حكومتين، واحدة في غزة، وأخرى في رام الله تصرِّف الاعمال. تلك هي قضايانا جميعاً: أي حقيبة سوف تُملأ وبأشلاء اي وطن. انه الشرق الجديد يعوم فوق طبيعته القديمة.
 
1- سالونيكا: مدينة الأشباح، بقلم مارك مازوير.