الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الشرق الأوسط.. والاستخباريون إنْ حكوا!

الشرق الأوسط.. والاستخباريون إنْ حكوا!

04.11.2015
عبد الوهاب بدرخان



الاتحاد
الاثنين 3/11/2015
نادراً ما يتحدث الاستخباريون علناً، وعندما يفعلون فإنهم يقدّمون معطيات وتحليلات وأحكاماً واضحة، وبذلك يختلفون عن السياسيين. يستند الاستخباريون إلى الواقع والوقائع، ولا يستوحون سياسات أو قرارات حكوماتهم التي قد تتناقض أحياناً مع الحقائق التي يوفّرونها لها أو تتجاهلها وتتصرّف بها وفقاً للمصالح. لم يقفز الكثير مما قيل في مؤتمر استخباري عُقد الأسبوع الماضي في واشنطن إلى الإعلام، لكن برزت فيه خلاصتان عن الشرق الأوسط أدلى بهما مديرا الاستخبارات الأميركية والفرنسية. فالأول أضاء على مساعي البحث عن حل سياسي في سوريا قبل يومين من انعقاد لقاء فيينا الثاني، أما الآخر فذهب إلى تقويم غير مفاجئ، لكنه صادم بخصوص مستقبل المنطقة.
نفهم من "جون برينان"، مدير ال "سي آي إيه"، أن الحل العسكري والتسوية السياسية في سوريا يتساويان في الصعوبة إنْ لم يكن أيضاً في الاستحالة. ومع ذلك خرج المجتمعون في اللقاء الثاني الموسّع في فيينا ليقولوا إن هناك فرصة لبلورة حل، لكنهم اعترفوا بأنهم لا يزالون على عتبة البحث في الحل. عرضوا "المبادئ" العامة التي اتفقوا عليها، ك "وحدة سوريا" و"الحفاظ على مؤسسات الدولة" و"حماية السوريين بكل فئاتهم" و"تقديم المساعدات الإنسانية إليهم، فضلاً عن الخطوات المستوحاة من بيان"جنيف 1"(حكومة انتقالية، دستور جديد، انتخابات). لكن خلفية مداولات فيينا تشي بشيء من التجاوز ل"جنيف 1" وفقاً لتصوّرات روسيا وإيران التي لم تعترف مطلقاً بذلك البيان الصادر في 30 يونيو 2012.
صحيح أن هناك ورشة دبلوماسية بدأت للتوّ بصنع إطار دولي وإرادة دولية وصولاً إلى"الحل"، لكن جون برينان يفضّل "خطوات صغيرة" متدرّجة ترمي إلى خفض سخونة الصراع وبناء ثقة بين الأطراف الراغبة في تسوية سلمية. الأرجح أنه أقرب إلى الواقع، لأن لديه فكرة مفصّلة عن الوضع المشرذم على الأرض، وعن فوضى سلاح وعقائد و"أمراء حرب" تتطلّب الكثير من العمل والجهد لمعالجتها وإعادة ضبطها. وهذه الفوضى هي نفسها السائدة بين الدول المعنية، بسبب تناقض المصالح وتشابكها أو تقاطعها سواء كان أصحابها حلفاء أو أصدقاء أو خصوماً. فالولايات المتحدة وروسيا تبدوان مبدئياً متفاهمتين وعاملتين في إطار واحد، لكنهما تفترقان كلياً عند التطبيق، ما يضلّل الآخرين ويحبط جهودهم لبناء سياسات ثابتة وواضحة للتعامل مع الوضع السوري. وأكثر الفوضى هذه تأتّى من غموض الخيارات الأميركية حيال المعارضة مقابل خيارات بالغة التماسك لدى روسيا وإيران، وحتى الصين في دعمها للنظام السوري. لكن كيف يمكن التوصل إلى "الخطوات الصغيرة"و"بناء الثقة"؟ هذا ما لم يتضح بعد.
ليس مؤكداً إذا كان التوافق على"المبادئ" يعني شيئاً بالنسبة إلى التسوية النهائية أم أنها تقتصر الآن على إظهار النيات. وليس"برنار باجوليه"، مدير الاستخبارات الفرنسية، وحده الذي يعتقد "أن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة"، فكل من يتابع الصراعات الدائرة على أرض سوريا والعراق لديه انطباع عميق بأن ثمة تقسيماً أصبح واقعاً معاشاً، ويصعب تغييره، وأن المناطق باتت تدير نفسها بما تيسّر لها من إمكانات ووسائل. وما يساهم في تكريس هذا الواقع، أن دولاً ترعى الانقسامات الراهنة وتعمل على تعميقها. وبما أن بعض هذه الدول شاركت في لقاء فيينا، ولم تعترض على البيان المشترك الذي يؤكد احترام "وحدة سوريا" فإن مواقفها خارج القاعة تثير تساؤلات. وعلى سبيل المثال فإنه يصعب العثور على موقف إيراني رسمي واحد يشير إلى وحدة سوريا، في حين أن لها مواقف سابقة تدعم"وحدة العراق" في إطار دعمها الحكومة المركزية التي تهيمن عليها في بغداد.
لا شك في أن الاستخباري الفرنسي لم يكن جارياً نحو الإثارة ولا متبرّعاً بموقف لم تذهب إليه حكومته علناً، بل كان يقرأ سوريا والعراق اللذين حوّلت الحروب الأهلية وحالات الإرهاب جغرافيتهما السياسية والاجتماعية إلى قطع متناثرة. لذلك لم يتردد في القول إنهما لن تستعيدا حدودهما السابقة، وبالتالي فهذا هو التغيير الحاصل. لكنه لم يتطرّق إلى السؤال الاستطرادي الفوري: هل يقتصر التغيير على هاتين الدولتين؟ المشكلة أن إمكانات سوريا الموحّدة كانت بالكاد تمكّنها من توفير أبسط مقومات التنمية لمناطقها، فكيف ستكون الحال بعد تحوّل تلك المناطق إلى "أقاليم" أو"دويلات". في المقابل كانت تتوفّر للدولة المركزية في العراق كل الإمكانات لرعاية مناطقها كافة، لكن العقل السياسي البائس وسوء الإدارة أدّيا إلى الانهيار وإلى ارتسام المصير التقسيمي.