الرئيسة \  مشاركات  \  الشيخ الأستاذ الدكتور محمد محيي الدين عنتر

الشيخ الأستاذ الدكتور محمد محيي الدين عنتر

08.12.2013
الأستاذ محمد غياث الصباغ




دوحة مسجد زيد بن ثابت الأنصاري جمعتني بكثير من القامات، وبكثير من الأساتذة، وبعدد كبير من الإخوة في الله، جمعيهم هيأتهم لي الأقدار الإلهية والنفحات الربانية بفضل الهمة العالية، والروح الطيبة، والنفس المعطاءة، والتواضع الجمّ، والعلم النافع، الذي حباه الله تعالى لشيخنا الراحل العلامة الشيخ عبد الكريم الرفاعي، رحمه الله، الذي أقام لنا هذه الدوحة وأسس لنا هذا الصرح العلمي الدعوي العريق.
 
لم أكن يومها (1969)م -وأنا ابن الخامسة عشر من العمر- أستطيع اختبار الرجال ولا معرفة الكبار، ولكن هذه الدوحة المباركة، وهذه المدرسة العلمية الدعوية العريقة، استطاعت أن تأخذني من بيتي وأهلي وعالمي كله لأجد فيها شيئاً لا يمكنني وصفه ولا التعبير عنه لحلاوة ما فيه وعظمة ما يحويه، من الحب في الله، والإيثار والعطاء والبذل، مقترناً مع التعليم والتربية والتوجيه والترفيه، وجدت فيها الصديق والأخ والأب، والمعلّم والمتعلّم، والشيخ والمريد، والمدرّس والطالب، والأستاذ والتلميذ، والمربي والسالك، كلهم اصطبغوا بصبغة واحدة فريدة، صبغة القرآن والسنة، صبغة الأخلاق النبوية الكريمة والشمائل المحمدية العلية.
كان من أهمّ هؤلاء الأصفياء الذين تأثّرت بهم أستاذي وشيخي الدكتور أبو النور محمد محيي الدين عنتر، هذه الشخصية التي لم يرها أحد –حسب استقرائي وعلمي- إلا وأحبها وأُخِذ بها، لما جمعته من جميل الصفات ومحامد الأخلاق، شخصية نادرة اجتمع فيها جمال الظاهر وصفاء الباطن، جمال الخَلْق وتكامل الخُلُق، تلاحم فيها الرسم مع الاسم (أبي النور)، ببسمة لا تفارق المحيّا، ورقة لا تخالها في مربّي، ودعابة لا تتوقعها من أستاذ، وعلم ومعرفة قلّ أن تجتمع في طبيب أسنان، مع همّة عالية، ونفس طموحة، ورؤية متفائلة، إن نظرت إليه تفاءلت، وإن استمعت لكلامه أخِذت، وإن حضر فهو زينة المجلس، وإن غاب لم تجد من يملأ مكانه ولا من يسدّ فراغه، ولمَ لا؟ فهو إلى أسرة دمشقية عريقة ينتمي، وفي عائلة مرفّهة نشأ، وفي مدرسة التُقىَ الكريم تربى، وفي أحضان الشيخ عبد الكريم كبر ونما، ومن علم القرآن والسنة ارتوى، متى أردته في المسجد وجدته، صباحاً أو ظهراً أو عشية، اختار أن تكون عيادته قرب المسجد الذي وهبه حياته، وملاصقة لبيت شيخه الذي صاغه رجلاً فريداً، فكان فقيدنا أبو النور له يومياً درس أو أكثر مع الشيخ عبد الكريم الرفاعي، فقد قرأ عليه جملة من العلوم كالتوحيد والفقه والأصول، وتتلمذ أيضاً على الشيخ محمد عوض رحمه الله، إذ كان من جملة طلابه في حلقته العلمية الخاصة، أما الملازمة التامة وخاصة بعد وفاة الشيخ عبد الكريم فقد كانت للشيخ أسامة عبد الكريم الرفاعي، إذ قرأ عليه أيضاً كبريات كتب الأصول وغير ذلك من العلوم، وكانا بعد الدرس كالأخوين والصديقين، لا يفترقان إلا لحاجة ومصلحة، فأخذ كل من أخيه جميل الصفات وشمائل الأخلاق.
وكا رُبّيَ الشيخ محمد عنتر رَبّى، فقد تتلمذ على يديه مجموعة كبيرة من الطلبة، وعدد غفير من التلاميذ، فقد كان –رحمه الله- مطلب كل أخ في المسجد، وأمل كل طالب في هذه المدرسة الدعوية القرآنية، كان بحقّ أيقونة مسجد زيد بن ثابت، يشهد كل ركن من أركانه قديماً وحديثاً لنشاطه وجهده، ولدأبه وحركته، وعلمه وعمله، تشهد كل زاوية لدرس، ويشهد كل حائط للقاء، وكل أسطوانة لتجمع، وكل غرفة لمحاضرة، نشأتُ عليه وعدد من إخواني في مقتبل العمر، بالتحديد خلال المرحلة الثانوية كلها، تتلمذتُ عليه وقتها، ويالها من نعمة، وما أعظمها من منحة، وما أحلاها من ذكرى، وكنت مع ثلّة مباركة من إخواني وأحبابي، كالشيخ القارئ الدكتور أيمن رشدي سويد، وكالشيخ تاج الدين تاجي، وكالشيخ القارئ طه سكر، والكتور أحمد فؤاد شميس وعدد كبير من الإخوة، لمن نكن يومها لا قراء ولا فقهاء ولا دكاترة، ولا شيوخاً، كنا صغاراً في السنّ، صغاراً في العلم والمعرفة، فغدونا بفضل أمثال هؤلاء أبي النور محمد عنتر وإخوانه، ما نحن عليه اليوم من فضل الله وعطائه وكرمه وإفضاله، نوصف بالشيوخ وبالقراء و .. و ..الخ والفضل لأهل الفضل وما نحن إلا حسنة من حسناتهم، وثمرة من ثمراتهم.
في الأحداث التي مرت بها سوريا في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي هاجر الشيخ محمد عنتر مع ثلّة كريمة من إخوانه إلى المملكة العربية السعودية، ونزل بجدة عتبة الحرمين الشريفين، وأذكر تماماً – وقد كنت سبقت مجيئه بعامين- أنه عُرضت عليه وظائف كثيرة في عيادات أسنان عديدة في جدة، ليكون واحداً من كوادرها وأطبائها، ولكنه كان يرفض! ويقول: أملي أن أكون في طَيبة الطيّبة عند الطيّب المطيَّب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبقي على هذا الحال قريباً من سنة كاملة، نفذ كل ما جمعه من مال، ولم يغير موقفه! رغم الإغراءات ورغم الضائقة المادية التي أحاطت به، فثبت وكان كالطود شامخاً، تملؤه الثقة بالله تعالى، بأن محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ستحقق له مراده بأمر الله، وكان ذلك، كان النتيجة كما تأمّل، وأنا عند حسن ظن عبدي بي، دعي ليكون طبيباً في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وكان ذلك، وعرفته المدينة المنورة التي زادته بهاء وصلاحاً وصفاء ورقة وحباً، وعرفه أهلها وطلابها يقصدونه ويحبونه، يداوي القلوب قبل أن يداوي الأسنان، وكان بيته ومازال إلى اليوم بيت العلم وبيت الكرم، تقام فيه دروس العلم، دروس الحديث الشريف والسنة النبوية، فكم من مرات قُرئ صحيح البخاري كله في منزله، بدرس جامع يملأ البيت بأهل العلم وبالصالحين من أهل المدينة المنورة، كان كلما هاتفته أطلب منه الدعاء، أقول له هنئياً لكم مقامكم في المدينة، يقول لي: قل: المدينة المنورة، ويأخذه الحديث في التغزل بها وبساكنها عليه الصلاة والسلام، أكثر من مرة كان منه ذلك، حتى حفظت الدرس، ووعيت معنى الحب والتعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام.
عاش محباً لله، محباً لرسول الله، طالباً جوار النبي الكريم، فكان له ما أراد، حياً وميتاً، فها هو ذا اليوم موعد درس البخاري في منزله (الثلاثاء الأول من صفر 1435 الموافق للثالث من كانون الأول 2013) يلفظ أستاذنا وشيخنا أنفاسه الأخيرة في المدينة المنورة، وُسيدفن فجراً -إن شاء الله- في بقيع الغرقد، بين الصحابة والتابعين والصالحين، وبجوار سيد المرسلين.
هنيئاً لك هذا الجوار يا شيخنا، هنيئاً لك حسن الختام يا أستاذنا، هنيئاً لك ما عشته في طاعة الله يا حبيبنا، رحمك الله يا من صبرت على تربيتنا إذ كنا صغاراً، ووصلتنا ولم تقطعنا إذ صرنا كباراً، آنسك الله، عوضك الله الجنة، وجزاك الله عنا خيراً، وإننا على العهد باقون بإذن الله، حتى نجتمع معاً تحت لواء المصطفى عليه الصلاة والسلام في جنة الفردوس، وهذه ثقتنا بالله تعالى وأملنا من ربنا الكريم.