الرئيسة \  تقارير  \  الصدمة الأمنية الأوروبية

الصدمة الأمنية الأوروبية

06.03.2022
دلاوي أسامة


ساسة بوست
السبت 5/3/2022
أفاقت أوروبا صباح يوم 24 فبراير (شباط) على صدمة أمنية حقيقية حينما شن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزوًا واسع النطاق لأوكرانيا، رغم الجهود الدبلوماسية الحثيثة والتحذيرات ليعرب قائد الجيش الألماني ألفونس مايس في تصريح على أنه “لم يتوقع أبدًا تجربة الحرب مرة أخرى” في أوروبا. وبأنها باتت جزءًا من الماضي.
سباق التسلح إلى الواجهة من جديد!
بعد سنوات من التخفيضات في الميزانية الدفاعية في إطار الحد من التسلح، لاحظت معظم جيوش أوروبا محدودية خياراتها الإستراتيجية في التعامل الأمني مع مختلف القضايا الطارئة والأزمات الأمنية فقد وقفت السياسات الدفاعية الأوروبية إلى حد الآن عاريًة في الخيارات التي يمكننا تقديمها لدعم السياسات الدفاعية ثلاثة أيام فقط، في 27 فبراير حين نصب بوتين قوات الردع النووي في حالة تأهب، وهو ما لم يكن في الحسبان.
وعليه خصص المستشار الألماني أولاف شولتز 100 مليار يورو إضافية، حوالي 112 مليار دولار لميزانية الدفاع لبلاده في تحول كبير لدعوات الحد من التسلح، كما أيد دعوة الاتحاد الأوروبي لتمويل توريد أسلحة دفاعية إلى أوكرانيا.
هذه الدعوات سببها الرئيس مجموع الميزانيات الضعيفة الموجهة لقطاع الدفاع الأوروبي طوال السنوات بدءًا من 1989.
كل هذا أدى بدول أوروبا إلى الجوء لتخصيص ميزانيات إضافية استعجاليه (1.7% بريطانيا، 1.6فرنسا، 2% ألمانيا، مجموع أوروبا 5%) والدعوة لتعاون دفاعي أقوى مستقبلًا من أمثلته بناء طائرات مقاتلة ودبابات في اوروبا، رفع مخزون الذخيرة وغيرها.
كما قال في البرلمان إن كل هذا ضروري “لحماية حريتنا وديمقراطيتنا”.
لذا تعد هذه القرارات وغيرها إجراءات فارقة فقد كان هجوم بوتين على أوكرانيا بمثابة لحظة فاصلة في مفهوم الأمن الأوروبي.
الجهود الدبلوماسية لاحتواء الخلاف هل هي مجدية؟
وباشرت الدول الأوروبية الكبرى حملات وساطة دبلوماسية مكثفة. وقامت عدة شخصيات سياسية بارزة، بما في ذلك قادة ووزراء خارجية من ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، ودول أخرى، بزيارات مكوكية بين موسكو وكييف، وعقدت لقاءات في باريس وبرلين والعاصمة البولندية وارسو.
ولكن يبدو أن تلك الجهود لم تؤت بثمارها، حيث تصاعدت الأزمة واندلعت الحرب.
في الأيام القليلة الماضية أيقن الأوروبيون في هذه الحرب سبب عدم وصول جهودهم الدبلوماسية إلى نتائج فعلية رغم المشاورات الطويلة والجهود الحثيثة مع بوتين لأكثر من عقدين من الزمن؛ لأن دبلوماسيتهم مهما كانت حسن النية تفتقر إلى أساس القوة الصارمة.
ينظر الأوروبيون إلى الحرب على أنها لعنة من الماضي على عكس بوتين الذي لا يفعل ذلك هذا جعل الأوروبيين يفاوضون من موقع ضعف، وليس موقع قوة، وهو ما أثر على سيرورة الأحداث وزاد تفاقمها.
بوتين الحرب أفضل من المفاوضات
يرى بوتين بان الحرب في أوكرانيا (وفي جورجيا من قبل) خيار أفضل من المحادثات متيقنًا أنه بشن الحرب يمكنه على الأرجح الحصول على ما يريد لأن الأوروبيين لن يقفوا في طريقه كما جرت العادة بينما في المفاوضات كشكليات كان عليه تقديم التنازلات، لكنها تبقى حبرًا على ورق.
تباينت ردود الأفعال يوم غزو بوتين لأوكرانيا، فقد صرحت أنجريت كرامب-كارينباور، في تغريده تستحق الاقتباس: “نحن غاضبون جدًا من أنفسنا لفشلنا التاريخي بعد جورجيا وشبه جزيرة القرم ودونباس، لم نجهز أي شيء من شأنه أن يردع بوتين حقًا، لقد نسينا الدرس المستفاد من شميدت وكول (المستشارين الألمان السابقين) من أن التفاوض دائمًا يأتي أولًا، لكن علينا أن نكون أقوياء عسكريًا بما يكفي لجعل عدم التفاوض خيارًا للطرف الآخر، في مواجهة تهديدات بوتين النووية الصارخة”.
إن معظم الأوروبيين، أصبحوا يعتقدون أن السلام هو الوضع الطبيعي، لكن الأيام الأخيرة أثبتت أن الحرب تندلع عندما يفشل السلام هذا ما تُظهره الحرب في أوكرانيا للأوروبيين اليوم.
التراخي الدفاعي الأوروبي المشترك
بينما كانت الولايات المتحدة تهتم بأمن أوروبا الغربية وذلك لمحاولة ضمان اندلاع حرب مع الاتحاد السوفيتي في أوروبا وليس في أمريكا الشمالية كرس الأوروبيون أنفسهم لتعزيز السلام بين أنفسهم في خطوة للهروب للأمام ونسيان الماضي التاريخي الدموي وقد حاولوا جاهدين أن يعززوا حالة السلام حتى الأسبوع الماضي.
لذا يبدوا بأنهم لم يعودوا يتعاملون مع ظاهرة الحرب على محمل الجد ومن أمثلة ذلك لم يعد التجنيد الإجباري في معظم الدول الأوروبية نشطًا وقلصت ميزانيات الدفاع مرات عديدة حتى هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب المظلة الأمنية قبل بضع سنوات حتى أن البعض وصف بشكل ملطف مساهمتهم في الحروب في العراق بأنها “حفظ سلام” مما يجعلهم على حد تعبيرهم أكثر دعاة السلام تفانيًا في العالم هذا الشيء جعلهم يعاملون ظاهرة الحرب كشيء غريب حتى الحرب في يوغوسلافيا في التسعينات، والتي كانت حربًا أوروبية، كانت حقيقة بعيدة بالنسبة لمعظم الناس، بل الكثيرون منهم اعتبروها آخر مشهد يفعله الناس ببعضهم البعض عندما لا يعيشون في ديمقراطيات تحكمها سيادة القانون.
بطريقة ما يشعر الأوروبيون أنهم قد خرجوا من حالة الحرب إلى حالة السلام الدائم بعد قرون من إراقة الدماء الحروب هي ما يفعله الآخرون بالنسبة إليهم وتدخلاتهم تكون بإرسال مساعدات إنسانية ومبعوثين سلام خاصين على حد تعبيرهم.
وهو ما أشارت إليه المؤرخة العسكرية الكندية مارغريت ماكميلان في محاضرتها كيف تصنعنا الحروب: “بالنسبة لأولئك منا الذين استمتعوا بما يسمى غالبًا السلام الطويل، من السهل جدًا رؤية الحرب على أنها شيء يفعله الآخرون، ربما لأنهم كذلك في مرحلة مختلفة من التطور. نحن في الغرب، كما نفترض برضا عن النفس، أكثر سلامًا.. والنتيجة هي أننا لا نأخذ الحرب على محمل الجد كما تستحق”.
أين سيتوقف بوتين؟
السؤال المطروح بقوة في هذه الآونة أين سيتوقف بوتين؟
حتى الآن نرى بأنه يسير بخطوات فعلية وجادة وانه أنجز كل ما قال إنه سيفعله، لذا لا يوجد سبب لافتراض أنه غير جاد بشأن الخطوات التالية.
لقد كان بوتين واضحًا في مرات عديدة بشأن رغبته في استعادة العظمة للإمبراطورية الروسية أو إحياء أمة روسية عظيمة خارج المذهب الاشتراكي الذي اندثر حسبه مع الاتحاد السوفيتي لسنوات خلت.
قال بوتين إنه يعتبر أوكرانيا روسية وأنه يريد إعادة روسيا البيضاء ودول الاتحاد السوفيتي السابق الأخرى تحت قيادة الكرملين مرة أخرى. حول هذه الإمبراطورية الروسية الجديدة أراد إنشاء حلقة من الدول المحايدة. ومن هنا، في ديسمبر (كانون الأول) 2021، طالب دول وسط وشرق أوروبا بأن تغادر قوات الناتو التي انضمت إلى الحلف بعد عام 1997.
كما أشارت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت إلى أن “بوتين يشعر بالحرج مما حدث لبلاده (انهيار الاتحاد السوفيتي) وهو مصمم على استعادة عظمتها”. بالمقارنة مع سلف بوتين العاطفي واللطيف بوريس يلتسين، عازمًا على استغلال الفرص لاستعادة الأراضي والمكانة المفقودة محاولا إعادة تجميع إمبراطورية اندثرت بعد عام 1989، تمامًا كما هيمن ستالين على أجزاء كبيرة من وسط وشرق أوروبا بعد عام 1945 للانتقام من الخسائر الإقليمية بعد عام 1919.
ما نلاحظه على الصعيد الشخصي أن بوتين يؤمن بعقيدة لطالما كانت نمطية تتمثل في صورة القائد الصلب الذي يسعى للسيطرة على السلطة داخليًا والتحكم في المحيط قصد التحكم في الأمن القومي.
ختامًا
لقد عاش معظم الأوروبيين في سلام لأجيال منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، على وجه التحديد كما ساعدت المظلة الأمنية الأمريكية في تعزيز السلام في أوروبا لسنوات عديدة.
لذا تعد الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة نقطة تحول وهزة عنيفة لمفهوم الأمن في أوروبا، خاصة أنها اقرب منها ما يكون لصدام مباشر مع أوروبا وحلف الناتو.
وعليه يجب على أوروبا ان تدرك أن هناك طريقة واحدة فقط لوقف هذه الصدمة الأمنية بجعل الثمن مقابل هذه الحرب أعلى ما يمكن فرضه كتكلفة سياسيًا واقتصاديًا، وحتى عسكريًا أيضًا إن استوجب الأمر.
فللحصول على السلام، وجب أن يفضل كلا الجانبين السلام على الحرب، ولجعل هذا ممكنًا ذلك تحتاج إلى جعل الحرب مكلفة للغاية لتتمكن من تكريس مفهوم غائب عن السياسات الدفاعية الأوروبية وهو مفهوم الردع.
إذا كانت أوروبا تريد الاستمرار في العيش بسلام فعليها في النهاية أن تبني سياسة خارجية قوية ودفاعًا مشتركًا حقيقيًا.