الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الصراعات الطائفية بين الفعل وردّ الفعل

الصراعات الطائفية بين الفعل وردّ الفعل

29.10.2013
محمد السمّاك


المستقبل
الاثنين 28/10/2013
عندما احتلت فرنسا لبنان وسوريا بعد الحرب العالمية الأولى، حاولت فرض هيمنتها بتوظيف التعدد الديني والمذهبي في المنطقة من خلال تحويله الى أداة للصراع والتفجير الطائفي. ولما وضعت المنطقة تحت انتدابها، أقرت فرنسا مخططاً لإقامة دول طائفية علوية ودرزية وسنية في سوريا، وذلك بعد أن ضمت مناطق من سوريا الى لبنان وأعلنت دولة لبنان الكبير في عام 1920 على يد الجنرال غورو. وكردّ فعل على ذلك، قامت حركات قومية معارضة تمثلت في حركة القوميين العرب وحزب البعث والحزب القومي الاجتماعي وكذلك الحزب الشيوعي، كقوى عابرة للطوائف والمذاهب ورافضة ليس فقط للانتداب الفرنسي، ولكنها رافضة ايضاً وأساساً لإعادة رسم الخريطة السورية على أساس ديني ومذهبي.
كانت اثارة النعرات الطائفية هي الفعل. وكان قيام هذه الحركات القومية هو رد فعل.
وعندما اجتاح السوفيات أفغانستان وفرضوا سيطرتهم عليها، قامت حركة طالبان كرد فعل على هذا الاحتلال. صحيح ان هذه الحركة تعززت بالدعم الأميركي، الا ان تخلي الولايات المتحدة عنها بعد الانسحاب السوفياتي، أدى الى رد فعل ثان دفع الحركة الى السيطرة على الدولة الأفغانية، ومن ثم الى قيام تنظيم القاعدة واحتضانه.
ووقع الأمر ذاته في العراق بعد اجتياح القوات الأميركية واحتلالها له في عام 2003. فقد قامت كرد فعل على الاحتلال، حركة مقاومة بأسلوب وشعارات ونموذج تنظيم القاعدة. ولأن الطبيعة الديموغرافية العراقية تختلف عن الطبيعة الديموغرافية في افغانستان، فقد ادى الاحتلال ورد الفعل عليه الى تمزق العراق مذهبياً وعنصرياً، علماً بأنه لم يكن قبل ذلك مجتمعاً سليماً ومعافى من أمراض الطائفية والعنصرية.
حتى الثورة الاسلامية في ايران لم تنفجر في عام 1979 بقيادة الامام الخميني الا كردّ فعل على التبعية الإيرانية في عهد الشاه للولايات المتحدة وعلى الانفتاح الإيراني على اسرائيل والتعاون معها. ويرمز الى ذلك تحويل السفارة الاسرائيلية في طهران بعد الثورة الى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية التي لم يكن الشاه الراحل يعترف بها.
ولقد ولد حزب الله من رحم الاحتلال الاسرائيلي للبنان في عام 1982، ولا يزال يستمد مبررات وجوده واستمراره من وجود الاحتلال واستمراره في بعض المناطق اللبنانية في الجنوب والجنوب الشرقي. وحتى لو صح الادعاء بأن الحزب خرج من رحم الثورة الإيرانية وان مقاومته الناجحة للاحتلال الاسرائيلي للبنان قدمت خدمة جليلة للستراتيجية الايرانية في اقامة رأس جسر لها على المتوسط واعلانها لاعباً رئيساً في تقرير مصير السلم والحرب في المنطقة، فان ذلك لا يغير من جوهر الأمر. وهو ان العدوان الاسرائيلي والاحتلال كانا الحافز وراء ذلك.
وفي عام 1967 عندما احتلت اسرائيل القدس مع الضفة الغربية وغزة وسيناء ومرتفعات الجولان، صورت انتصارها في الحرب على انه تجسيد للارادة الإلهية. وان هذا الانتصار الإلهي هو الثاني بعد الانتصار في اقامة اسرائيل في عام 1948. وان الانتصار الثالث القادم هو بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى.
وقد تلقفت هذا التوظيف الديني للانتصار العسكري الاسرائيلي الحركة الصهيونية المسيحانية في الولايات المتحدة. وهي حركة سياسية دينية كبيرة ومنظمة تؤمن بالعودة الثانية للمسيح، وبان لهذه العودة شروطاً لا بد من توفرها والعمل عليها وهي تجميع يهود العالم في فلسطين صهيون وبناء الهيكل الذي يعود المسيح اليه ويحكم العالم منه لمدة ألف عام، يسمونها الألفية، بعدل وسلام. ولذلك اعتبرت هذه الحركة الانتصار الاسرائيلي انتصاراً لنظريتها الدينية وانطلقت في حملة سياسية مالية واسعة النطاق لدعم اسرائيل والدفاع عنها داخل الولايات المتحدة وخارجها.
وكرد فعل على ذلك قامت حركات الاسلام السياسي.. وانطلقت هذه الحركات من أمرين. الأول اعتبارها ان حركات القومية العربية التي تولت القضية الفلسطينية منذ عام 1948 فشلت فشلاً ذريعاً ولم يعد يجوز الاعتماد عليها في استرجاع الحقوق المغتصبة. والأمر الثاني هو ان الله مع المسلمين وليس مع اليهود. وان الانتصار الاسرائيلي كان عقاباً إلهياً للمسلمين لأنهم تخلوا عن الجهاد في سبيل الله، وانه تبعاً لذلك على المسلمين أن ينصروا الله حتى ينصرهم. ونصر الله لا يكون الا بتطبيق شريعته. ولذلك اصطدم قيام هذه الحركات الاسلامية بالأنظمة السياسية. وعرف هذا الصدام موجات مد وجزر الى ان انفجر "الربيع العربي"، فخرج معظم هذه الحركات من تحت الأرض حيث كانت تمارس العمل السياسي السري- الى قمة السلطة كما حدث في تونس (حزب النهضة) ومصر (حزب الاخوان المسلمين)، وقبل ذلك في غزة (حركة حماس). وتتطلع هذه الحركات الى الوصول الى السلطة ايضاً في سوريا (من خلال الثورة) وفي الأردن. وهي تحاول الوصول اليها في ليبيا بعد الاطاحة بنظام (أو بلا نظام) معمر القذافي.
ولكن قبل "الربيع العربي" عرفت ثلاث دول عربية هي لبنان وسوريا والعراق، نماذج من الصراعات المذهبية على خلفيات ردود فعل لتدخلات خارجية.
فلبنان المتعدد الأديان والمذاهب وحتى العناصر (الأرمن والسريان)، كان دائماً في مرمى الستراتيجية الاسرائيلية التي تستهدف تقسيم المنطقة الى دويلات دينية توفر بصراعاتها الداخلية الأمن الستراتيجي لاسرائيل. ومنذ الخمسينات من القرن الماضي وجّه بن غوريون اول رئيس حكومة اسرائيلية رسالة الى وزير خارجيته موشى شاريت يحضه فيها على العمل على تقسيم لبنان. ومشهورة مقولته : "اعطني جنرالاً مسيحياً موالياً لاسرائيل أعطيك دولة مسيحية في لبنان". ولقد حصلت اسرائيل على جنرالين وليس على جنرال واحد، هما سعد حداد وانطوان لحد، ولكنها لم تحقق هدفها بسبب الوعي المسيحي الوطني.
صحيح ان المسيحيين اللبنانيين عانوا طويلاً من التجاوزات الفلسطينية الى حد ان منظمة التحرير الفلسطينية فرضت سيطرتها على لبنان لحين من الزمن، الا ان هذه المعاناة لم تذهب بهم الى التخلي عن لبنان الموحد الا لفترة قصيرة وكرد فعل موقت. ولقد جاء اتفاق الطائف 1989 ليقيم قاعدة جديدة للوحدة الوطنية تتجاوز الديمقراطية العددية الى الديمقراطية التوافقية في اطار المناصفة في المناصب الوزارية والمقاعد النيابية وفي توزيع السلطات الرئيسة الثلاث على الطوائف.
اما في سوريا فان الأمر مختلف. فالرئيس السابق حافظ الاسد ومنذ "الحركة التصحيحية" التي قام بها، أمسك بمقاليد الحكم ومارس السلطة المطلقة، الا انه فعل ذلك ولو شكلاً- تحت مظلة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يرفع شعار القومية والعلمانية. ثم انه عندما توفي كان قد أوصى بأن يصلي على جثمانه الشيخ محمد سعيد البوطي وهو شيخ سني من أصل كردي. ولقد قبِل المشايخ العلويون بهذا الأمر على مضض.
صحيح ان الأسد حوّل الجيش السوري بقياداته وأركانه الى قوة علوية وأقصى عنها المسلمين السنة، الا انه اضطهد عشائر علوية أيضاً واستوطن عدداً من قيادييها في سجونه. وهو ما عرفه العراق أيضاً في عهد رئيسه السابق صدام حسين. فقد اضطهد مواطنيه الشيعة، واضطهد في الوقت ذاته مواطنيه السنة من الأكراد خصوصاً. وما ارتكبته قواته في حلبجة من مجازر استخدم فيها السلاح الكيماوي يفوق في هوله ما ارتكبته هذه القوات في النجف الأشرف والبصرة وسواها من المدن الشيعية التي رفعت في وجهه العصيان المدني. مع ذلك فان الجيش العراقي الذي حارب ايران في عام 1980 كان يتألف في أكثريته من عناصر وقيادات شيعية.
لقد ادى اقصاء السنة الطائفة الأكبر في سوريا- عن السلطة الى رد فعل تمثل في الثورة التي انفجرت من حادث عادي في درعا كان يمكن احتواؤه بسهولة لو توفر حد أدنى من الحكمة والعقلانية. وادى اقصاء السنة الطائفة الموازية للشيعة في العراق- عن السلطة الى رد فعل تمثل في حركات التمرد والعصيان التي تشهدها مناطق متعددة من العراق. ولكن أوضاع هذه المناطق السنية تنموياً واجتماعياً، ليست أسوأ حالاً من المناطق الشيعية التي تعاني من الحرمان نتيجة الفساد والهدر وسوء الادارة.
في قوانين الطبيعة ان لكل فعل رد فعل. والعلاقات بين الجماعات وخاصة داخل الدولة الواحدة- هي جزء من هذه الطبيعة.
عرف التاريخ حكاماً كثيرين حاولوا لي ذراع هذه الطبيعة فما نجحوا. وعرف كثيرين أيضاً حاولوا صنع طبيعته على قياس طموحاتهم فانقلبت وبالاً عليهم وعلى أوطانهم. وما أكثر الأمثلة الحية !!.