الرئيسة \  تقارير  \  الصين والغرب

الصين والغرب

21.09.2022
نايجل إنكستر


نايجل إنكستر
- خدمة “نيويورك تايمز”
الشرق الاوسط
20-9-2022
خلال مسيرتي المهنية التي دامت 3 عقود مع جهاز الاستخبارات البريطاني، لم يجرِ النظر إلى الصين على الإطلاق على أنها مصدر تهديد كبير.
أما في الأوقات التي داهمنا خلالها القلق، فقد كان الأمر يتعلق بتحديات أكثر إلحاحاً، مثل التوسع السوفياتي والإرهاب العابر للحدود.
اليوم، تبدو الصورة مختلفة، فقد اكتسبت الصين نفوذاً اقتصادياً ودبلوماسياً عالمياً، ما أتاح تنفيذ عمليات سرية تمتد إلى ما هو أبعد عن عمليات جمع المعلومات الاستخبارية التقليدية، وتنمو هذه العمليات السرية على نطاق واسع وتهدد بسحق وكالات الأمن الغربية.
من ناحيتهم، أعرب رؤساء الاستخبارات الأميركية والبريطانية؛ مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي، ومدير الاستخبارات البريطانية الداخلية، كين مالكولم، عن قلق متزايد بشأن هذا الأمر خلال مؤتمر صحافي مشترك غير مسبوق في يوليو (تموز) كي يحذروا، على حد تعبير راي، من جهد صيني “مذهل” لسرقة التكنولوجيا والاستخبارات الاقتصادية، والتأثير على الصعيد السياسي الخارجي لصالح بكين. وقالوا إن وتيرة هذه الجهود الصينية تتسارع مع زيادة عدد التحقيقات التي تجريها الاستخبارات البريطانية الداخلية حول تزايد النشاطات الصينية المريبة بمقدار 7 أضعاف منذ عام 2018.
من ناحية أخرى، لطالما كانت ثقافة الحزب الشيوعي الصيني ذات طبيعة سرية، لكن نظراً لأن الحزب أصبح أكثر هيمنة داخل الصين منذ أن تولى الرئيس شي جينبينغ السلطة قبل عقد، فقد تفشت ثقافة السرية في مؤسسات الدولة. لذا، من الأفضل وصف الصين بأنها دولة استخباراتية. من جانبه، ينظر الحزب إلى أعمال الحصول على الأسرار وحمايتها على أنها مهمة تشمل الأمة بأسرها، لدرجة أنه يجري تقديم مكافآت للمواطنين مقابل كشفهم جواسيس محتملين، حتى يجري تعليم أطفال المدارس كيفية التعرف على التهديدات.
من جهته، لا يستطيع الغرب محاربة النار بالنار، ذلك أن حشد الحكومة والمجتمع والأنظمة الاقتصادية والأكاديمية حول المنافسة مع الأعداء الأجانب بالطريقة التي تفعلها الصين سيكون بمثابة خيانة للقيم الغربية. ومع ذلك، يبقى من الضروري على قادة الديمقراطيات استيعاب التغيير الهائل الذي حدث في الصين، والتأكد من أن التفاعل مع بكين بناءً على إدراك قوي لحقائق الواقع.
يذكر أن آخر تهديد استخباراتي للدولة بحجم مماثل لما تمثله الصين اليوم، كان من جانب السوفيات. إلا أن الاتحاد السوفياتي كان معزولاً وفقيراً. في المقابل نجد أن اقتصاد الصين الناجح يشكل محركاً رئيسياً للنمو العالمي، الأمر الذي يعزز نفوذ بكين بدرجة كبيرة.
كانت الصين مرئية بالكاد على المسرح العالمي قبل 30 عاماً. أما اليوم، فقد أصبحت وكالات الاستخبارات الصينية قوية وتحظى بموارد جيدة. وتتميز بكين ببراعة خاصة في استغلال نقاط ضعف المجتمعات المفتوحة، وكذلك استغلال الاعتماد المتزايد على اقتصاد الصين لجمع كميات هائلة من المعلومات الاستخباراتية والبيانات.
ويحدث كثير من هذا في المجال السيبراني، مثل اختراق مكتب إدارة شؤون الموظفين بالولايات المتحدة عام 2015 عندما سُرقت بيانات حساسة عن ملايين الموظفين الفيدراليين. علاوة على ذلك، يوجد عملاء الاستخبارات الصينية كذلك داخل المؤسسات المملوكة للدولة والمؤسسات الإعلامية الحكومية والسفارات والقنصليات. جدير بالذكر أنه جرى إغلاق القنصلية الصينية في هيوستن من قبل إدارة ترمب عام 2020 بعد أن كانت بمثابة مركز وطني لجمع المعلومات الاستخبارية عالية التقنية.
إلا أن العمليات السرية الصينية لا تتوقف عند هذا الحد.
يتطلب قانون الاستخبارات الصيني الذي سُن عام 2017 من المواطنين مساعدة وكالات الاستخبارات، لكن هذا التشريع جاء ببساطة ليضفي الطابع الرسمي على الوضع الذي كان بالفعل هو القاعدة السائدة. ويأتي التحدي الأكبر للصين من المنظمات والجهات الفاعلة المنخرطة في أنشطة قد لا تتوافق مع المفاهيم العادية للتجسس.
ويجري تنظيم كثير من هذا من قبل قسم عمل الجبهة المتحدة، وهي منظمة حزبية تسعى إلى اختيار أعضاء من ذوي المكانة الجيدة من مجتمعات الشتات الصينية، التي اتسع نطاقها في عهد شي. كما تسعى الصين إلى جذب مواطنين غربيين آخرين. من بين القضايا النموذجية التي تكررت مثيلاتها كثيراً، قضية كشف النقاب عنها هذا العام، وتتعلق بسياسي بريطاني تلقى مكتبه تمويلاً ضخماً من محامٍ من أصل صيني، الذي تمكن بالتالي من الوصول إلى المؤسسة السياسية البريطانية. ويتمثل أحد الأساليب التي تنتهجها بكين في تنمية العلاقات بصبر مع السياسيين على مستوى المدينة أو المجتمع ممن يظهرون إمكانية الارتقاء إلى مناصب أعلى. وهناك طريقة أخرى تُعرف باسم الاستحواذ على النخبة، ويجري بمقتضاها عرض فرص مربحة أو فرص تجارية على الشخصيات الحكومية أو الشركات الغربية المؤثرة مقابل تأييد السياسات التي تتماشى مع المصالح الصينية.
من وجهة نظر الصين، تتعلق هذه الجهود بالبقاء. وتؤمن بكين بأنه يجب الحصول على التكنولوجيا واستخبارات تجارية للحفاظ على نمو الاقتصاد الصيني بسرعة كافية للحيلولة دون حدوث حالة من زعزعة الاستقرار على الصعيد الاجتماعي. من جهته، شدد شي على الحاجة إلى تبني وسائل “غير متكافئة” للحاق بالغرب على الصعيد التكنولوجي.
اليوم، ربما تكون الصين في صدارة اللعبة، لكن تظل هناك أدوات يمكن أن تستخدمها وكالات الاستخبارات والأمن الغربية، بما في ذلك تزويد الموظفين بالمهارات اللغوية المطلوبة، والوعي بالصين وأساليب عمل الحزب الشيوعي الصيني، لكنهم بحاجة إلى المساعدة.
ولا يمكن للديمقراطيات الليبرالية الاضطلاع بدور الدفاع فقط، وإنما يجب على القادة السياسيين أن يدافعوا عن ضخ استثمارات أكبر في قدرات جمع المعلومات الاستخبارية الهجومية، وبرامج التوعية التي تثقف الشركات والمنظمات السياسية والأهداف المحتملة الأخرى حول نقاط ضعفهم. هناك حاجة كذلك إلى أنظمة لتقييم الآثار المترتبة على الأمن الوطني لما قد يبدو أنه مجرد أنشطة تجارية عادية لشركات صينية أو كيانات غير صينية تعمل كواجهة لبكين.
تتطلب مواجهة بكين عملية توازن صعبة، خاصة في الدول التي تضم أعداداً كبيرة من المغتربين الصينيين. ومن الأمثلة على ذلك برنامج مكتب التحقيقات الفيدرالي لمنع سرقة المعلومات الاقتصادية والعلمية من الجامعات الأميركية، الذي بدأته إدارة ترمب في إطار مبادرة التعامل مع الصين. وكان للبرنامج تأثير مخيف على العلماء والمهندسين الصينيين الذين شعروا بأنهم ضحايا لظلم مجحف. وجرى إنهاء البرنامج هذا العام.
يجب ألا تخشى الدول الغربية من القيام بخطوات جريئة على هذا الصعيد. في الواقع، نادراً ما تؤثر أفعال مثل الطرد الجماعي البريطاني لضباط المخابرات السوفياتية عام 1971 بعد تصاعد نشاط التجسس على العلاقات الأوسع بين الجانبين. ولا ينبغي المبالغة في تأثير أعمال التجسس والتخريب، فمثلاً لم يخسر الاتحاد السوفياتي الحرب الباردة بسبب عملياته الاستخباراتية، التي كانت جيدة. وإنما بسبب فشل المثل والقيم الحاكمة.
وقد يكون الأمر نفسه صحيحاً مع الصين. يجب على صانعي السياسة وأجهزة الاستخبارات الغربية الابتكار والتكيف، لكن يجب عليهم كذلك التأكد من أن الاستراتيجيات التي يستخدمونها تحترم مُثُل الحرية والانفتاح والشرعية التي تشكل أكبر تهديد لدولة الحزب الشيوعي الصينية.
وثمة حاجة ملحة هنا إلى سن تشريع جديد وأكثر فاعلية يتماشى مع الديناميكيات المتغيرة، فهذا أمر حيوي. في هذا الصدد، تتخذ بريطانيا خطوة في الاتجاه الصحيح. ويبدو أنها مستعدة لسن مشروع قانون للأمن الوطني، من شأنه أن يوسع تعريف التجسس ويتخذ تدابير لخلق “بيئة عمل أكثر تحدياً”، كما عبرت عنها وزارة الداخلية، أمام أولئك الذين يعملون وكلاء لمصالح أجنبية. جدير بالذكر أن أستراليا سنّت تشريعات مماثلة 2018 للحد من النفوذ السياسي الأجنبي الخفي بعد ظهور مخاوف بشأن النشاط الصيني.