الرئيسة \  واحة اللقاء  \  العالم والمهاجر السوري الحالم!

العالم والمهاجر السوري الحالم!

23.09.2015
د.طيب تيزيني



الاتحاد
الثلاثاء 22/9/2015
يجتاح العالم الآن حالة غير مسبوقة من التدافع التاريخي والإنساني، ومعروف أن دراسات كثيرة في هذا الشأن، كتبها مؤرخون وباحثون في حقول سوسيو-تاريخية متعددة. وهذا من طبائع الأمور مع نشوء العلوم كأنساق معرفية ضبطت وما تزال تضبط مشهد أو مشاهد التاريخ المتعددة تعدد المجتمعات والجغرافيا الطبيعية والأعراق والإثنيات والحضارات، مع توزعهم جميعاً في الآفاق الكونية، التي عمّرت جغرافياً وبشرياً في القارات الخمس.
وفي سياق العملية التاريخية الكبرى التي خضع لها ذلك العالم باتجاه أنسنته التاريخية الكبرى واجتماعه وتاريخه، شهد أحداثاً متتالية من الهجرات باتجاه الجهات الأربع، بحثاً عن الخِصب والأمن والأمان والتقدم، مع الاستقرار والإنتاج الحضاري، دون أن يركن نهائياً إلى واحدة من تلك الهجرات. بل إن هناك من الناس، بل من الكائنات الحية، من اكتشف أن الأمر منوط بالبحث المفتوح عن مصائره المحددة بتحقيق الشروط المحددة تواً (أي الخصب والأمن.. الخ). وهذا ما جعل البشر في حالة مفتوحة من الهجرة، وخصوصاً أن الحروب راحت تتحول إلى عامل آخر من عوامل التأثير الإيجابي أو السلبي في مراحل الهجرات المذكورة، وفيما تؤول إليه من السلم أو الحرب، أو ما بينهما من اضطراب بدرجة أو بأخرى.
ونريد، بعد كل هذه المقدمات، القول إن ما يقوم به السوريون في هذا العِقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إن هو إلا عملية رمزية وواقعية في مواجهة الوحشية الفائقة، من أجل درء جرائم «بشر» فقدوا بشريتهم في مرحلة يعتبرها آخرون نهاية لخط التقدم التاريخي. ومن ثم، فإن مَن عليه أن يحافظ على انتمائه «الحضاري» فعليه ألا يخرج من قطار الحضارة الأخير، وهو قطار الحضارة الأميركية العولمية. أما الجديد في الأمر فيتمثل في أن هذا القطار لا يحمل هوية أميركية فحسب، وإنما هنالك هويات أخرى له، مثل الهوية الروسية والإيرانية والمجرية!
ولابد من التنبيه هنا إلى أن الذاكرة التاريخية العريقة للسوريين لم تزل فحسب حاضرة وحارة براهنيّتها وتاريخيتها، وإنما هي ربما تعيش واحدة من أكثر مراحلها التاريخية مأساوية، ومن شأن هذا أن يؤكد على أن الدرس الوحشي الفائق الكآبة والبشاعة، الذي يعيشه السوريون الآن بملايينهم المهاجرة في الآفاق، لن يكون قابلاً للنسيان: إنه حي لم يمت! فإذا كان هؤلاء قد هاجروا، بالمصادفة، كما بالضرورة، إلى بلدان تفتقد العقل والإنسانية والتآخي البشري، فإنهم يستطيعون أن يقدموا دروساً لا تُنسى من الحب والكرامة والإنسانية الرفيعة. وهذا بدوره سيدعونا للعودة إلى فصل جديد من تاريخ البشرية، ولنسأل هنا، متى يتم ذلك! إنه مسار في اتجاهين: واحد للولادة الجديدة، وآخر لملحمة البناء.
-----------
أستاذ الفلسفة - جامعة دمشق