الرئيسة \  واحة اللقاء  \  العالم يجرّب بالمريض السوري

العالم يجرّب بالمريض السوري

08.10.2013
غازي دحمان


المستقبل
الاثنين 7/10/2013
العجز عن المبادرة، وفقدان الطرف الدولي القوي، يفرضان على مقاربات الأزمة السورية أخذ طابع التجريب بما يستتبعه من ضرورة انتظار تظهير النتائج، وضرورة تحريك عناصر التجربة وخلق المناخات المناسبة لنجاحها، بوصفها تجربة وحسب، دون الاهتمام بما إذا كان المنتج الذي ستفرزه ستكون له فعالية مناسبة لعلاج الإشكالية الأساسية.
كل ما يحصل في محيط الحدث السوري لا يعدو كونه تمارين ذهنية تجريبية في حقل العلاقات الدولية، مرة بقصد تجريب تعديل ميزان القوى العالمي، ومرة تجريب حالة الابتعاد عن الانخراط المباشر بإدارة الأزمات، وقد يأخذ التجريب شكل توريط قوى بعينها في الحدث وإظهاره على أنه إنجاز إستراتيجي. وفي ظل هذه المناخات عادة ما يجري الحديث عن شخصيات عبقرية تحرك خيوط الأزمة، أكثر من الحديث عن أدوار الدول، إذ ليس مصادفة أن يسطع نجم سيرغي لافروف ويتحول من دبلوماسي برطانة أيديولوجية خشبية إلى براغماتي محترف.
على أن ذلك يجب أن لا يغيّب حقيقة أن المنظومة العالمية بدأت تنفك عن عقيدتها وعقدها الأساسي الذي تأسس عشية الحرب العالمية الثانية، بتراتبية قواها، وكذا القانون الناظم لسير العلاقات الدولية والقائم على مسؤولية حفظ الأمن والسلم الدوليين، ودور الدول الكبرى في هذا الإطار، وتعيد تشكيل ذاتها وفق مقاربة جديدة خلاصتها أن مروحة عناصر المشاكل العالمية صارت أكبر من قدرة دولة أو مجموعة دول على حملها أو التصدي لها، ذلك أن بيئة الصراع العالمي طوّرت نمط عملياتها على مدى سطح أوسع بفضل التشابك والتعقيد الذي باتت تتميز به أنماط التفاعلات البشرية، وان الأفضل الاتجاه بدل ذلك إلى نوع من التخصصية، بمعنى الاكتفاء من أي حدث عالمي بالعناصر التي تخص طرف ما وترك الباقي يتفاعل بالطرق المناسبة دون إزعاج.
تثبيت هذه القاعدة جرى يوم أطفأت البوارج الأميركية محركاتها قبالة السواحل السورية على وعد أن يتم تسليم السلاح الكيماوي الذي قد يستهدف إسرائيل، العنصر الأهم في معادلة الحدث السوري، دون التدقيق بمدى انعكاس هذا الأمر على بقية العناصر المدمرة في الأزمة السورية، من نوع إستمرار نظام الأسد بقتل مواطنيه بكل أنواع الأسلحة، وترجمة تلك القاعدة جرى لحظة لقاء كيري- نتنياهو فور الإنتهاء من التفاهم مع روسيا حول هذه الصفقة، وكأنه يقول أخذنا حصتنا وليأخذوا بعدها ما يريدون.
الرئيس اوباما حاول تمرير مندرجات نظرية العناصر هذه بإستراتيجية الأهداف، بدل إستراتجية الخطوط الشهيرة، في مقابلة أجرتها معه قناة تلموندو الناطقة بالإسبانية حيث يرتكز الهدف الاول على"إخراج الاسلحة الكيميائية من سوريا حتى لا تتمكن أي جهة من استخدامها"، ثم الهدف التالي هو "العمل مع جميع الأطراف، ومنها الأطراف التي تدعم النظام السوري كروسيا لنقول: "يجب أن نضع حدا لهذا". مضيفاً انه" سيجري التعامل مع الأهداف بالتدريج بحيث يجري التركيز على هدف واحد في آن". بالطبع يدرك اوباما أن إنجاز كل هدف من تلك الأهداف يتطلب ظروفا ومناخات مناسبة لا يستطيع أحد التقدير باستمرار انسيابية سهولة تحقيقها، كما يدرك أن المسافة بين تحقيق هدف وأخر تحمل في طياتها تضاعف نكبة السوريين وتشرذم دولتهم.
على الجانب الروسي، كانت تطبيقات النظرية تبدو أكثر وضوحاً، إذ إن موسكو بنت قضيتها في الحدث السوري على أساس التركيز على إحداثيات معينة ، مثل التأكيد على مسألة الأمن القومي الروسي المهدّد بقرب سورية الجغرافي واحتمال أن يؤدي انهيار الدولة السورية إلى ضياع المخزون الكيماوي وصوله إلى بعض مناطق القوقاز، اما العنصر الجديد الذي حاولت الدبلوماسية الروسية إظهاره في الأزمة فهو الابتعاد عن الديماغوجية والتركيز على الإحساس بالمسؤولية، وكان ذلك في صلب مقالة بوتين للأميركيين في النيويورك تايمز، وفي ثنايا جل تصريحات الخارجية الروسية.
باستثناء تلك العناصر، لا يمكن العثور في نص الإتفاق الكيماوي على ما يشتبه به أنه يمثل أساساً لحل الأزمة التي قتلت عشرات الألاف من السوريين وشردت الملايين منهم، ولا عن مستقبل التعايش في هذا البلد، حتى مؤتمر جنيف2 في ظل هذه الصياغة لن يعدو كونه محاولة لترسيخ ما سبق التفاهم عليه، أمن إسرائيل وأمن روسيا. الأمر الوحيد المقدر له أن يرى النور هو الإتفاق على إدارة هذا الصراع وضبط مفاعيله كي لا تتطور إلى ما هو أبعد من ذلك.
ما يعزز هذا التحليل واقع الأزمة السورية نفسها، فهي تكرست بحيث أصبح حلها يحتاج وجود إرادة دولية وأثمان تفوق ما هو مطروح الآن، ذلك أن حل المشكلة يتطلب نزع ديناميات الصراع التي صارت متغلغلة بشكل كبير في الجسم السوري، جغرافيا وديمغرافيا، وبات الوصول إلى حل سياسي مستقر يتطلب وجود قوات حفظ سلام وإشراف دولي على إعادة صياغة النظام السياسي بحيث يستوعب كل المكونات السورية فضلاً عن إعادة إعمار البلد، وهذا الأمر غير مطروح الآن في أي مشروع سياسي حقيقي، كل ما توفر حتى اللحظة هو مجرد حلول نظرية لا حظوظ لها في التطبيق على الأرض نتيجة وجود عوامل طاردة لإمكانية تحقيقها، كتشكيل حكومة إنتقالية تعمل على نقل السلطة بشكل سلمي!.
الواقع أن العالم يتجه إلى إعادة صياغة التركيبة الدولية من جديد، بحيث تسعى أميركا إلى إستدخال بعض القوى لتولي بعض مهام الشرطي العالمي التي أنهكت الغرب الأميركي، الذي يسعى في هذه اللحظة إلى ترميم وضعه الإقتصادي والإلتفات إلى هذه المسألة باعتبارها الميزان الحقيقي لتقرير قوة الأمم وفاعليتها، وباعتبارها الداعم الأساسي لكل عناصر قوة الدول، أما روسيا التي تتمتع ببعض الفوائض النفطية فإنها تسعى لان تكون طرفاً له صوت في مجلس الأمن شرط أن يتم ذلك بالإقناع الدبلوماسي وتكتيكات الخداع، دون الاستعداد للعودة إلى مناخات الحرب الباردة ومستلزماتها وأدواتها.
ليس أكثر من خليط تجريبي تجريه القوى العظمى، اما الواقع فهو أن العالم بات بلا مرسى وإن بقيت عناصر النظام الدولي محتفظة بقواعدها التقليدية، وربما هذا ما يزيد الامر سوءاً.