الرئيسة \  مشاركات  \  العراق: الصفقة الإقليمية الكبرى

العراق: الصفقة الإقليمية الكبرى

03.07.2014
غسان العطية



من أجل تجنب الخيار السوري
ان الفشل الامريكي والاوروبي في التعامل السريع والحاسم مع تحرك شعبي سوري سلمي من اجل مطالب سياسية مشروعة، انتهى بان انزلقت سوريا الى حرب طائفية دخلت عامها الثالث من دون رؤية لمخرج.
رغم التشابه بين الحالة السورية والعراقية من نواح كثيرة، حيث الانقسام الطائفي وهيمنة طرف وتهميش آخر، وتسلط حكم فردي وطائفي، الا ان هناك تباينا يفرض مقاربة امريكية مختلفة. فالولايات المتحدة ليست مسؤولة عن صعود الاسد للحكم ولا عن هيمنة الطائفة العلوية هناك، بينما هي التي احتلتالعراق واسقطت نظاما ديكتاتوريا واسست لنظام اخر طائفي جعل من احد مكوناته (العرب السنة) ضحيته حسب معادلة ساذجة بان الاغلبية هي من الشيعة والكرد، ولذا على العرب السنة القبول بـ»الديمقراطية»، الامر الذي دفع البلاد الى حرب طائفية خلال الفترة بين 2006 و 2007، ولكن واشنطن استطاعت، بوجودها العسكري الضخم وبالاستفادة من تجربتها، ان تغير سياستها باتجاه كسب العرب السنة، وان تطفئ نيران الحرب الاهلية انذاك، ليشارك في ما بعد العرب السنة بكثافة في الانتخابات النيابية عام 2010، وحققت القائمة التي تمثلهم نجاحا كان بمثابة انتصار لقوى الاعتدال السنية.
ولكن واشنطن استجابة لضغوط الاحزاب الاسلامية الشيعية، ومن ورائهاايران امتنعت عن دعم «القائمة العراقية» الفائزة لتشكيل الحكومة، وتوسطت مستفيدة من علاقاتها مع الاحزاب الكردية للتوصل لتسوية تتيح للمالكي اعادة تشكيل الحكومة بناء على اتفاق عرف باسم «اتفاق اربيل» الذي اسس لتشكيل الوزارة واختيار رئيس للجمهورية والبرلمان.
مسؤولية المالكي
ولكن ما ان انسحبت القوات الامريكية من العراق في نهاية عام 2011 حتى نكث المالكي باتفاقية اربيل، وتخلى عن «الصحوات» ولاحق زعامات سنية بدءا من نائب رئيس الجمهورية ووزير المالية، واعتمد سياسة فرق تسد في التعامل مع القوى السنية البرلمانية، وحول القوات المسلحة الى اداة قهر طائفي، وبات واضحا ان المالكي ليس بصدد شراكة حقيقة مع الاخرين، بل اصبح ساعيا لمزيد من السلطات والانفراد الى حد خسر ثقة ليس الكرد والسنة فحسب، بل حتى احزابا شيعية كان لها الفضل في توليه الحكم مثل، الصدريين والمجلس الاسلامي الاعلى بزعامة عمار الحكيم.
كما تتحمل قيادة «القائمة العراقية» بعض المسؤولية في تصدع العملية السياسية، فكان امامها خيار افضل من اتفاقية اربيل، الا وهو مقايضة منصب رئيس الوزراء بشراكة متكافئة مع «دولة القانون» والاحزاب الكردستانية ليشكل هذا الثلاثي توازنا حقيقيا لا يسمح لانفراد رئيس الوزراء بالحكم كما حصل في ما بعد.
ان الطريقة التي تمت فيها مشاركة بعض القيادات السنية بالوزارة وتلويح قادتها بالاستقالة اكثر من مرة، من دون العمل بها، افقدها الكثير من صدقيتها امام جماهيرها التي اتهمتها بتفضيل مصالحها الشخصية على مصالح ناخبيها.
امام تراجع وشرذمة القوى السنية البرلمانية، استطاع المالكي ان يتجاهل نصائح واشنطن بتعديل سياسته تجاه شركائه من العرب السنة والكرد، معتبراامريكا على حد تعبيره «فاقدة الوزن»، ومع ذلك تساهلت واشنطن مع المالكي باعتبارة الافضل في ضبط الامور، الى ان سقطت الموصل بيد «دولة العراق والشام الاسلامية» ليتذكر المالكي حاجته للمساعدة الامريكية. الامر الذي يعطي واشنطن عتلة سياسية للضغط على المالكي، ولكن السؤال بأي اتجاه؟
الخيارات الأمريكية
بعد ان استبعدت واشنطن عودة قواتها البرية للعراق، فان خياراتها تبقى محدودة، فاستخدام القوة الجوية الامريكية في ضرب قواعد دولة العراق والشام الاسلامية (داعش) ليس بالامر السهل كما اكد خبراء عسكريون امريكان «الواشنطن بوست» 16 حزيران/يونيو 2014 فاذا كان تحرك داعش برا تجاه بغداد فمن الممكن وقفه بضربات جوية، اما اذا انتشرت داعش في المدن وبين السكان سيجعل من اي ضربة جوية مخاطرة في استهداف المدنيين الابرياء، وما يعطيه من فرصة للاستغلال الاعلامي والتحشيد الطائفي لصالح داعش، واذا اريد استخدام الطائرات المسيرة فهناك حاجة لقواعد جوية على الارض، وهذه متوفرة في السعودية وقطر والبحرين وتركيا، ولكن هل ستسمح هذه الدول بضربة تلحق الضرر بالعرب السنة؟
اضافة الى ان واشنطن لا تريد ان يفرض عليها الانحياز لطرف معين في حرب طائفية ساحتها تتجاوز العراق الى كل الشرق الاوسط، بما يشمل الكثير من حلفائها من السنة.
ومع ذلك فان اوباما اشترط قيام المالكي بتوسيع حكمه ليشمل الاخرين، فهل هذا شرط أم مجرد تمن، واذا لم يستجب المالكي لدعوة اوباما فهل سيمتنع الاخير عن اي اجراء عسكري في العراق؟
اما دعوة بعض المعلقين والسياسيين الامريكان لغسل اياديهم من الشأن العراقي، بحجة ان هذه مسؤولية الساسة العراقيين اولا واخيرا، وان واشنطن خسرت الكثير من الدماء والمال في العراق من دون جدوى. ان مثل هذه الدعوة بمثابة هروب للامام يذكرنا بانسحاب امريكا من العراق عام 2011 الذي هلل له الرئيس اوباما، قائلا : «قد يكون العراق احد اهم منجزات الادارة»، ليعــــود الوضـــع في العراق ليلاحقه بسقــــوط الموصل وتكريت بيد داعــش، الذي وصفه وزير الخارجية الامـــريكي جون كيري بـ «التحدي الوجودي» للعراق واعتبره تهديدا لاســـتقرار كل المنطـــقة.
ان سياسة غسل اليد وتوزيع اللوم تجاوزتها الاحداث، فالمطلوب تحرك امريكي سريع ومدروس، ومن هنا جاءت الاشارة الى فتح قنوات الاتصال بايران باعتبارها الاكثر نفوذا في العراق، وشهدت الحالة العراقية تطابق الرؤى الامريكية والايرانية اكثر من مرة، وتعاون البلدان بشكل مباشر او عبر وسيط في افغانستان عام 2001 وكذلك في العراق ابان حرب الخليج الاولى واحتلال العراق، كما ساهمت التفاهمات الامريكية الايرانية في الكثير من الاجراءات في العراق، كتغيير الجعفري واستبداله بالمالكي وتعاونهما في الابقاء عليه رئيسا للمرة الثانية عام 2010، كما ان الاتصال المباشر بين الطرفين لبحث الملف النووي الايراني في مسقط فتح الطريق لمباحثات الخمسة زائد واحد الخاصة بالملف النووي الايراني، ويلتقي البلدان في نظرتهما للقوى الاسلامية السنية المتشددة كـ»القاعدة» وداعش، وان ايران الصديقة للغرب ترفع عن كاهل الاخيرة مسؤولية مكافحة الارهاب «السني» في الشرق الاوسط وافغانستان، كما ان قدرات ايران الاستخبارية والعسكرية في العراق ستكون في غاية الفائدة لواشنطن لمقاتلة داعش او «القاعدة»، وان المساعدة الايرانية ستكون اكثر فائدة لواشنطن بعد انسحابها من افغانستان نهاية العام الحالي وايران الصديقة للغرب هي ضمانة تدفق النفط عبر الخليج العربي، والتصدي لعمليات تهريب المخدرات.
الاستعانة بايران في العراق تذكرنا باستعانة واشنطن في الثمانينات بالرئيس حافظ الاسد، لضمان استقرار لبنان وحماية المسيحيين من نشاط المقاومة الفلسطينية.
ولكن السؤال، ما الثمن الذي تطالب به ايران بالمقابل؟ وعلى حساب من سيكون؟
ان اي صفقة امريكية ايرانية منفصلة في الشأن العراقي ستجعل منه منطقة نفوذ ايرانية، الامر الذي يعني تمدد النفوذ الايراني وتهميش العرب السنة في العراق، بما يهدد مصالح العالم العربي ذي الاغلبية الاسلامية السنية. واكثر من ذلك ستجد اسرائيل في مثل هذا التحول تهديدا وجوديا لمصالحها ودورها في المنطقة، ولذا لا اعتقد ان واشنطن مستعدة لمثل صفقة كهذه التي لها معارضون اشداء في الوسط الامريكي قبل العربي والاسرائيلي.
الصفقة الإقليمية
الخيار الواقعي يعتمد على مشاركة دول الجوار العراقي، ايران والسعودية وتركيا، في صفقة سياسية، بما يستجيب لضرورة التصدي لداعش من دون الاضرار بمصالح الاطراف السنية المعارضة للحكم في كلا البلدين.
ان مثل هذه الصفقة على الصعيد العراقي تبدأ بمؤتمر تشارك فيه كافة القوى السياسية العراقية، بما فيها من حملت لسلاح باستثناء داعش، برعاية اقليمية وامريكية يعقد في القاهرة او اي مكان مناسب، بهدف كسب الاعتدال العربي السني لمواجهة التطرف الارهابي. النجاح في تحقيق مثل هذه الصفقة قد يكون ورقة واشنطن لاستخدام السلاح ضد العناصر المتطرفة الرافضة للصفقة.
لنجاح الصفقة لابد من خارطة طريق لمشاركة حقيقية في الحكم لممثلي المعارضة، بما يتيح الفرصة لزعامة جديدة تنفتح على الاخرين وقادرة على تعزيز الثقة، وهذا ما اكده اوباما في خطابه) 19 يونيو) 2014 عن حاجة العراق لرئيس جامع للاخرين وليس طاردا للبعض، وان واشنطن غير مستعدة لاستخدام السلاح مع طائفة ضد اخرى. ان مثل هذه الصفقة هي التجسيد العملي لمقولة اوباما بان الحرب ليست السبيل الوحيد لحل المشاكل.
ان كافة دول الجوار تخشى خسارة العراق لصالح خصم، ولكن لها مصلحة في استقرار العراق واستقلاله وعدم تحوله الى ساحة حرب بالوكالة بين جيرانه. ان تقسيم العراق يهدد السعودية بقيام دولة شيعية في الجنوب محاذية للمنطقة الشرقية ذات الاغلبية الشيعية، ويهدد تركيا وايران بقيام دولة كردية تؤثر على التوازن السكاني لتلك الدول، كما لايران مصلحة في عدم تحول العراق الى سوريا ثانية، يضيف عليها اعباء عسكرية ومالية لم يعد يتحملهما الاقتصاد الايراني، كما ان فشل التسوية في العراق قد يعيق تمرير الاتفاق النووي، وبالتالي بقاء العقوبات الاقتصادية على ايران. وبالمقابل استقرار العراق يجعل من موارده النفطية سبيلا للتعاون الاقتصادي والتجاري لصالح كافة الجيران، في حين اضطرابه سيحرم المنطقة والعالم من طاقة هو بأمس الحاجة اليها.
البديل عن هذا الخيار استمرار استنزاف العراق والمنطقة في حرب طائفية لسنوات قادمة، مع احتمال تقسيمه عمليا -ان لم يكن رسمياً- الى دوليات اثنية وطائفية تذكرنا بحروب ودويلات ما بعد يوغوسلافيا.
٭ كاتب سياسي عراقي