الرئيسة \  واحة اللقاء  \  العرب ودبلوماسية التواطؤ

العرب ودبلوماسية التواطؤ

19.11.2013
د. السيد ولد أباه


الاتحاد
الاثنين 18/11/2013
«دبلوماسية التواطؤ»...مصطلح ابتكره المفكر السياسي الفرنسي «برتراند بادي» لوصف المعادلة الدولية الراهنة، التي يرفض وصفها من منظور النموذج القطبي السائد في أبحاث العلاقات الدولية. لا يمكن بالنسبة لبادي وصف النظام العالمي الحالي لا بالمتعدد قطبياً ولا بما بعد القطبي، لأنه لا يقوم على توازن أو صراع بين أقطاب دولية، ولا معنى لوصفه بما بعد القطبي، لأنه تعبير يحمل تقويماً سلبياً لا تحديداً مفهومياً إيجابياً.
القطبية هي سمة تاريخية ظرفية بدأت سنة 1947، وانتهت سنة 1989، وعكست حالة نظام دولي في مرحلة الصراع الأيديولوجي والاستراتيجي بين كتلتين عالميتين متمايزتين، وبعد نهاية الحرب الباردة، عاد العالم إلى «دبلوماسية النادي»، التي سيرت المعادلة الدولية منذ نهاية الحروب النابليونية في القرن التاسع عشر. النادي العالمي اليوم تجسده مجموعة الثمان التي تهيمن على المنظومة العالمية في تركيبتها الاقتصادية والاستراتيجية، بيد أن بادي يرى أن دبلوماسية النادي الأوليغارشي المغلق لم تعد فعالة في عالم كيفته العولمة وربطت بين مكوناته، فليس من الممكن لثمان دول أن تتحكم في مصير 182 بلداً تنتمي لفضاءات إقليمية وثقافية شديدة التنوع، كما أن نادي القوى الدولية التقليدية عاجز عن وضع قواعد إجرائية ناجعة لضبط الأوضاع الدولية، مما يفضي إلى وضعية انسداد كامل في إدارة الأزمات العالمية، هي التي عبر عنها بادي بمقولة دبلوماسية التواطؤ الذي هو تواطؤ العجز لا الفاعلية.
المنطقة العربية الإسلامية (الشرق الأوسط بمفهومه الواسع)، هي دون شك ساحة رئيسية لاختبار دبلوماسية التواطؤ، حيث يبدو جلياً للعيان أن أزماتها العديدة المشتعلة غدت عصية على الحلول السياسية رغم النشاط المحموم للمبعوثين الدوليين والمبادرات المتلاحقة والاجتماعات المتتالية على صعيد المنظمات الدولية.
مسار التفاوض السلمي الفلسطيني - الإسرائيلي متوقف منذ سنوات وجولات «كيري» في المنطقة فشلت في تنشيطه، والأزمة الداخلية العراقية تتفاقم في حين يشكل الانسحاب العسكري الأميركي إقراراً بالإخفاق في استراتيجية ترتيب الأوضاع الانتقالية، التي نجمت عن الاحتلال، وأفغانستان تعود لسابق وضعها، في الآن الذي يجري التحضير لخروج القوات الأميركية، والحرب الأهلية تشتد في سوريا، والإدارة الأميركية تهدد بالتدخل العسكري لحماية السكان قبل أن تتراجع عن خيار الضربة، وتكتفي بالمبادرة الروسية لتدمير السلاح الكيماوي السوري. في مصر الموقف نفسه المتذبذب الضعيف والعجز عن التعامل مع تحولات الوضع السياسي الجديد بعد الرهان الأميركي على حكومات الإسلام السياسي في بلدان الربيع العربي.
«ولي نصر» الباحث الأميركي (من أصل إيراني) في العلوم السياسية والعلاقات الدولية ذهب في وصف الاستراتيجية الأميركية في عهد أوباما إلى أن الولايات المتحدة لم تعد لها رؤية استراتيجية حقيقية للعلاقات الدولية، وإنما أصبحت تصدر في مواقفها الدبلوماسية من مجرد سياسات تكتيكية تنطلق من اعتبارات السياسة الداخلية، فلم يعد الأمر يتعلق بأخذ قرارات استراتيجية، بل إرضاء الرأي العام المحلي. وقد اعتبر «ولي نصر» في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «الأمة غير الضرورية» أن أوباما يعتمد سياسة خارجية دنيا ولم يعد يهتم بتوطيد مركز الريادة الأميركية وقيادة الولايات المتحدة للعالم، مما ينعكس بقوة في سياسته الشرق أوسطية. يوضح «نصر» أن الشرق الأوسط لم يعد محور اهتمام الإدارة الأميركية، ولا حتى أولوية من أولوياتها، مما عبر عنه تصريح مثير للرئيس أوباما، ذهب فيه إلى أن ما يموت يومياً في سوريا لا يقل عن ما يموت في الكونغو، فلماذا التركيز على الدولة الشرق أوسطية بدل البلد الأفريقي، متناسياً أن الأزمة السورية يتعلق بها أمن المنطقة كلها ومصالح الحلفاء الحيويين للولايات المتحدة.
لا ينتمي أوباما إلى أي من المدارس الاستراتيجية الأميركية التقليدية التي تتمحور حول الواقعية البراجماتية والنزعة الانكفائية والنزعة الرساليةالتدخلية، وإنما يتبنى مقاربة مركبة لخصها «زكي العائدي» في مبادئ ثلاثة هي: المقاربة الأحادية في الأوضاع الحيوية المتعلقة بمصالح وآمن أميركا، والمقاربة الثنائية في إدارة علاقات الولايات المتحدة بشركائها الذين تعتبرهم أساسيين، والمقاربة التعددية التكاملية في الملفات الأقل أهمية.
ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن إدارة أوباما اتجهت في السنوات الأخيرة إلى النظر إلى أوضاع المنطقة الشرق أوسطية بالاستناد للقوى الإقليمية غير العربية، التي اعتبرتها الأطراف الشريكة التي ينبغي الاعتماد عليها، حتى في إدارة الملفات العربية. ومن هنا التركيز على الدور التركي في بلدان «الربيع العربي» في سياق الرهان الأميركي على حركات الإسلام السياسي التي احتضنتها حكومة أنقرة، والانفتاح المتزايد على إيران واعتبارها الشريك الضروري في التعامل مع الملفات السورية والعراقية واللبنانية المفتوحة.
لم يعد من الخافي على أحد أن دبلوماسية التواطؤ الأميركية ولدت امتعاضاً واضحاً في الساحة العربية، مما عبرت عنه العديد من ردات الفعل سواء في مصر أو بلدان المنظومة الخليجية (من بينها الرفض السعودي للمقعد المؤقت في مجلس الأمن)، واكبها انفتاح متزايد على الأطراف الدولية الأخرى خصوصاً روسيا التي عادت لاعباً أساسياً في الميدان الشرق أوسطي وعنصراً فاعلاً في تأزيم أوضاع المنطقة وحلها.
وإذا كان من غير الصحيح الحديث عن حرب باردة جديدة على الساحة الشرق أوسطية، ولا عن قطبية ثنائية جديدة، إلا أنه من الملاحظ أن الموقف الروسي الجديد يصدر عن مقاربة ثقافية للعلاقات الدولية تتمحور حول فكرتين رئيستين هما الوقوف ضد خطر التطرف الديني، الذي يمكن أن تصل عدواه إلى مجالها الإقليمي والحيوي في شمال القوقاز والوقوف ضد نزعة الهيمنة الغربية التي تتجسد في مبدأ التدخل الإنساني، وتحويل مدونة حقوق الإنسان إلى إطار ضابط للعلاقات الدولية.