الرئيسة \  تقارير  \  العوامل المؤثرة في السياسة التركية تجاه الملف السوري

العوامل المؤثرة في السياسة التركية تجاه الملف السوري

08.10.2022
علي فياض


علي فياض
نون بوست   
الخميس 6/10/2022
مع انطلاق شرارة الثورة السورية عام 2011، تبنّت تركيا خطابًا متوازنًا انطلقت منه كقاعدة دبلوماسية لدفع النظام لإجراء إصلاحات جذرية، وإقناعه بضرورة الاستجابة للمطالب الشعبية لاحتواء الغضب الشعبي المتصاعد سلميًّا، وإحداث تغييرات معيّنة على صعيد بنيته السياسية.
ولكن الحماس التركي بدأ يخفت في ظل تجاهل النظام وتعنّته تجاه عملية الإصلاح، ولم تفضِ المحاولات التركية إلى نتائج ملموسة، لا سيما مع اعتماد النظام مبدأ "اللعبة الصفرية/ كل شيء أو لا شيء" (Zero Sum) وخوضه حربًا شعواء وحشية ضد شعبه، لتنحو اللهجة التركية تجاه الأسد ونظامه من الدعوة إلى عملية الإصلاح والإسراع في تنفيذها إلى انتقاد سياسات النظام الأمنية تجاه الاحتجاجات الشعبية.
بعد ذلك؛ خُفّض مستوى العلاقة مع النظام إلى حدوده الدنيا، وشروعت أنقرة بدعم المعارضة السورية بشكل تدريجي تصاعدي سياسيًّا وعسكريًّا وإعلاميًّا وإغاثيًّا ولوجستيًّا لإسقاط نظام الأسد، وفقًا لمتطلبات المرحلة وتغيُّر المناخ الدولي والإقليمي تجاه الأوضاع في سوريا، وبالتناغم مع تطورات الوضع الداخلي التركي والسوري على حدّ سواء.
عوامل أثّرت في الانعطافة التركية في السياسة الخارجية
اتخذت تركيا خطوات تصعيدية للضغط على النظام سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا بشكل منسجم مع مواقف المجتمع الدولي، حيث قدّمت الدعم السياسي للمعارضة السورية، بدءًا باستضافتها معظم قيادات المعارضة السياسية بمختلف تياراتها على أراضيها، وصولًا إلى سحب سفيرها من سوريا، واعتبارها أن نظام الأسد فاقد للشرعية، منادية بضرورة تضافر الجهود لإسقاط النظام ودعم حقوق الشعب السوري.
كما شاركت في تأسيس مختلف منصات المعارضة السورية، كالمجلس الوطني وائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، فأعلنت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 اعترافها بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية كممثل وحيد وشرعي للشعب السوري، إلى جانب اتّباعها سياسة "الباب المفتوح" لاستقبال اللاجئين السوريين.
ويمكن القول إن انعطافة تركيا في سياستها الخارجية تجاه الملف السوري تحديدًا، لتأخذ دورًا مركزيًّا في الصراع، وتنخرط تدريجيًّا ضمن المعادلة السورية، في تحول واضح عن أُسُس استراتيجيتها المتمثلة بسياسة "صفر مشاكل"، والامتناع عن الدخول في أي صراع معقّد أو نزاع داخلي بشكل منفرد أو دون غطاء دولي؛ تعود في مجملها إلى عوامل عديدة داخلية وخارجية أثّرت في موقفها تجاه الثورة السورية وتقلباتها السياسية، ولعلّ أهمها تطورات المشهدَين السوري والتركي الداخلي، وتقلبات الموقف الدولي/ الإقليمي من الثورة السورية.
ويبدو أن تطورات المشهد السوري سياسيًّا وميدانيًّا كانت من أبرز العوامل التي أثّرت على الموقف التركي، في ظل توسُّع رقعة الاحتجاجات في معظم الجغرافيا السورية، وتصاعد أعمال العنف ضد المدنيين، وتراجع النظام ومؤسساته تدريجيًّا وتقهقره في العديد من المناطق، وتحوّل دعوات الشارع السوري من دعوات الإصلاح إلى المطالبة بإسقاط رموز وشخصيات النظام وأركانه، ومن ثم تحوّل الثورة نحو العسكرة نتيجة سياسة البطش والإرهاب التي اتّبعها نظام الأسد.
وأيضًا تشكُّل جهات سياسية سورية معارضة كمحاولة لإدارة المرحلة الانتقالية، وظهور مشاريع ورؤى وتشكيلات سياسية سورية مختلفة، كمشروع البرنامج السياسي للمجلس الوطني السوري عام 2011، الذي أكّد فيه المجلس على إسقاط النظام بكافة رموزه، وغيره من المشاريع السياسية والوثائق والقرارات الدولية المتعلقة بمسار القضية السورية سياسيًّا.
كل تلك التقلبات الداخلية في الساحة السورية فرضت معادلة سياسية جديدة حرصت تركيا على التناغم معها، وإبداء مرونة في التعامل معها بما ينسجم مع سياساتها وطموحاتها الإقليمية، مع غلبة الظن حينها لدى صانع القرار التركي - كما يبدو - بأنَّ سقوط النظام بات مسألة وقت، لذا كان لا بدَّ من توثيق علاقاتها مع حلفاء وشركاء جدد لمرحلة ما بعد الأسد.
عارضت تركيا الموقف الإيراني الروسي المؤيد والداعم للنظام، لكنها افتقدت في الوقت نفسه الغطاء الدولي
وفي السياق ذاته، تناغمَ الموقف التركي تجاه الملف السوري مع موقف المنظومة الدولية العام، إذ كان هناك مزاج دولي وإقليمي عام يؤيد إلى حدٍّ ما المطالب الشعبية ويساند عملية التحول في المنطقة، فضلًا عن توجه بعض القوى الدولية والعربية لفرض عقوبات سياسية واقتصادية ضد النظام.
بالإضافة إلى الانخراط الدولي المبكّر في الملف السوري ومساراته في الحل السياسي، والذي بدء بشكل فعلي مع بيان جنيف 1 لعام 2012، الذي انطلق من التأكيد على الانتقال السياسي كنقطة ارتكاز رئيسية لمسار الحل السياسي، وهو ما كان عاملًا دافعًا أثّر في موقف تركيا من الثورة السورية والعلاقة مع النظام.
إلى جانب ذلك، لعبت تفاعلات المشهد الداخلي التركي دورًا مهمًّا أيضًا في بلورة الموقف التركي تجاه الوضع في سوريا، لا سيما تلك المتعلقة بتغيّر التفضيلات السياسية والاستراتيجية التي تبنّتها تركيا مع قدوم حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، المتعاطف عمومًا مع قضايا الشعوب العربية والإسلامية، والذي تبنّى مقاربة سياسية خارجية نشطة وأكثر حركية وديناميكية للعب دور قيادي وفاعل ومركزي مؤثر في المشهد الإقليمي، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط الذي يعدّ مجالًا حيويًّا وعمقًا استراتيجيًّا لتركيا.
وفي الوقت نفسه، كان للرأي العام التركي المعارض لنظام الأسد والداعم لمطالب الشعب السوري، والذي ازداد تصاعديًّا مع بداية الثورة السورية، دافع إضافي للتحول التدريجي في الموقف الرسمي التركي، إذ يبدو أن القيادة التركية حرصت حينها على عدم مصادمة الرأي العام التركي واتخاذ موقف يعكس توجهاته.
فعلى سبيل المثال، أظهر استطلاع رأي، أجراه MetroPOLL Strategic and Social Research Center في مايو/ أيار 2011، أنَّ أكثر من 45% من المشاركين في الاستطلاع أيّدوا دعم تركيا للمتظاهرين في سوريا بدلًا من دعم نظام الأسد، و41.3% وافقوا على سياسة الحكومة التركية ضد النظام.
تشظّي الصراع في سوريا والحسابات الداخلية والخارجية التركية
بقيت العوامل الثلاث المتعلقة بالمشهد السوري الداخلي وتفاعلات المشهد التركي والمزاج الدولي العام، هي المحرك الرئيسي للسياسة التركية الخارجية تجاه سوريا والمؤثر المباشر على تفاعلاتها، إذ كان للتغييرات التي طرأت على الملف السوري أثرها المباشر في إعادة تقييم تركيا سياستها تجاه الملف السوري.
ومن أهم هذه المتغيرات تحوّل الساحة السورية بعد تعقُّد مجريات أحداثها إلى ساحة صراع وفوضى عارمة بنيوية، تلاقت فيها مصالح وحسابات أطراف دولية وإقليمية متعددة، وتناقضت تلك الحسابات والمصالح (الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية والأيديولوجية) وتداخلت مع تزايد حجم الانخراط الإقليمي والدولي وتشعّبه ضمن ثنايا المعادلة السورية، ما عمّق الأزمة السورية وجعل سوريا ميدانًا لتصفية الحسابات والنزاعات الدولية والإقليمية، وساحة استقطاب سياسي وأيديولوجي حادّ بين فواعل مختلفة.
وقد مثّل هذا تحديًا مباشرًا للأمن القومي والمجتمعي التركي، وأثّر بطبيعة الحال على الموقف التركي وحدَّ من خياراتها الاستراتيجية، الأمر الذي تطلّب منها إعادة النظر في استراتيجياتها، بعد أن مرّت بحالة من التردد والارتباك في التعامل الأمثل مع الملف السوري في ضوء المعطيات المستجدة في المشهد السوري، حيث وجدت تركيا نفسها طرفًا وسط استقطابات شديدة بسبب موقفها المعلَن من الثورة السورية.
ولعب الموقف الدولي والإقليمي تجاه تطورات المسألة السورية دورًا بارزًا في التأثير على موقف تركيا والحدّ من خياراتها، حيث اكتفى الغرب (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) بتقديم دعم سياسي ومالي محدود لقوى الثورة والمعارضة، دون تقديم دعم عسكري للجيش الحر قادر على تعديل ميزان القوى مع نظام الأسد، الذي تلقّى دعمًا عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا كبيرًا من حلفائه الإيرانيين والروس، ما عقّد حسابات تركيا وشكّل عقبة أمام سياساتها في سوريا.
إذ عارضت تركيا الموقف الإيراني الروسي المؤيد والداعم للنظام، لكنها افتقدت في الوقت نفسه الغطاء الدولي، لا سيما من الغرب الذي اتخذ خطوات خجولة دون رؤية استراتيجية واضحة مستدامة تستطيع الاستناد عليها في دعم سياستها في سوريا، فضلًا عن العزلة الدولية والإقليمية التي بدأت تعاني منها تركيا نتيجة مواقفها من قضايا المنطقة وثورات الربيع العربي، لا سيما السورية والمصرية.
كما أن تزاحُم الملفات الداخلية وتعاقبها ودخول تركيا في حالة من عدم الاستقرار السياسي، أثّر بطبيعة الحال على السياسة التركية في سوريا، خاصة بعد أحداث GEZİ PARK عام 2013، وتعثُّر عملية السلام الداخلي مع الأكراد بعد 3 سنوات من المفاوضات الجادة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK)، جرّاء استئناف الـ PKK عملياته العسكرية ضد قوات الجيش والشرطة التركية في عدد من المدن التركية ذات الأغلبية الكردية في يوليو/ تموز 2015.
حيث استغلَّ الـ PKK ضبابية المشهد السياسي في تركيا، بعد دخولها جملة من الاستحقاقات الانتخابية بدايةً بالانتخابات المحلية عام 2014، ثم الانتخابات الرئاسية عام 2015، مرورًا بالانتخابات البرلمانية في يونيو/ حزيران 2015، ثم انتخابات الإعادة من العام نفسه، وما كان لذلك من تداعيات اقتصادية وأمنية سلبية على الداخل التركي.
أدّت التطورات مجتمعةً إلى تبلور قناعة لدى صانع القرار التركي بضرورة إعادة النظر في سَيْر سياسة تركيا الخارجية ومراجعتها والعودة بها إلى دائرة التواصل مع مختلف الأطراف
كل ما سبق حدَّ فيما يبدو من قدرة تركيا على المناورة خارجيًّا فيما يتعلق بالملف السوري تحديدًا، حيث اكتفت بالعمل على تحقيق خرق معيّن في المسألة السورية من خلال بعض الجهود الدبلوماسية والعسكرية، عبر احتضان المعارضة السورية والعمل على رفع قدرتها وتأمين الدعم الدولي لها، وتأمين المساعدات الإنسانية اللازمة للشعب السوري، والعمل على عزل نظام الأسد سياسيًّا واقتصاديًّا، وحشد الجهود الدولية لإسقاط النظام عسكريًّا، وإبداء استعدادها للمشاركة في أي إجراء دولي ضد النظام بعد سنوات من رفض فكرة التدخل العسكري الدولي في سوريا.
وأيضًا الدعوة لإقامة منطقة آمنة شمالي سوريا، والتي طرحها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأول مرة في مايو/ أيار 2013، بهدف حماية الحدود التركية الجنوبية مع سوريا من التهديدات الأمنية وإيواء المدنيين السوريين الفارّين من الصراع، فضلًا عن حصر خياراتها العسكرية بالردّ على أي قصف يستهدف الأراضي التركية من قبل النظام، بعد خروقات النظام المتكررة والتحييد المرحلي لخيار التدخل العسكري الفردي دون الغطاء الدولي داخل الأراضي السورية.
كما أدت كل تلك التطورات مجتمعةً إلى تبلور قناعة لدى صانع القرار التركي بضرورة إعادة النظر في سير سياسة تركيا الخارجية ومراجعتها والعودة بها إلى دائرة التواصل مع مختلف الأطراف، وتخفيف حدة الاستعداء مع الأطراف المختلفة في المنطقة، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا،  وهو ما نتج عنه مشاركة تركيا في التحالف الدولي ضد "داعش" ، والسماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة إنجرليك العسكرية بعد أشهر أيضًا من الرفض، إضافة إلى فتح تركيا باب المصالحة والتهدئة مع بعض الفواعل الدولية كروسيا، خاصة بعد إسقاطها طائرة روسية في تشرين الثاني من العام 2015م في سوريا.
في المحصلة، فإنَّ حالة الفوضى التي شهدتها الساحة السورية والتي ترافقت مع تدخلات دولية وانعكاس ذلك على المشهد الداخلي التركي لتصبح المسألة السورية شأنًا داخليًا تركيًا مع ازياد حجم تهديد تنظيم "YPG" المدعوم أمريكيًا بعد تمدده على الحدود السورية التركية، وما كان له من تهديدات على الأمن القومي التركي، لاسيما مع ازدحام الشارع التركي بعدد من الاستحقاقات السياسية والانتخابية إلى جانب الضغوطات الدولية التي بدأت تعاني منها تركيا نتيجة لسياستها الداعمة لثورات الشعوب العربية، خاصة بعد الانقلاب في مصر عام 2013، أدت فيما يبدو إلى انعطافة تركية جديدة تصالحية مع بعض الفواعل الدولية والإقليمية في محاولة لتخفيف حدة الاستقطابات والعزلة التي بدأت تعاني منها تركيا، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على دورها في سوريا من ناحية موافقتها الضمنية على بقاء الأسد في السلطة والتخلي مرحليًا عن فكرة إسقاطه والقبول بخطة الانتقال السياسي وفق مخرجات فيينا، إضافة إلى إبدائها ليونة نسبية حيال التدخل الروسي المباشر في سوريا إلى جانب نظام الأسد في العام 2015م، وما كان لذلك من تداعيات جوهرية على موقف تركيا ودورها في المعادلة السورية.