الرئيسة \  واحة اللقاء  \  العيش في ديار الموتى

العيش في ديار الموتى

28.05.2014
جون ريتش



القدس العربي
الثلاثاء 27/5/2014
رفعت واشنطن (ومن بعدها باريس) درجة دعمها للمعارضة السورية الممثلة بالائتلاف الوطني. اقترب الائتلاف السوري من مرتبة الدولة المعترف بها خطوة أخرى. دولة تشبه في واقع الأمر الدولة الأمريكية نفسها: تقيم مؤسساتها على أرض مستأجرة، وتكاد مثلها أيضا تدافع عن شعب ليس شعبها.
دولة الائتلاف تشبه الدولة الأمريكية لأنها بمعنى ما تستطيع ادعاء تمثيل الشعب السوري كله، وتستطيع التنصل من ادعائها ساعة تشاء. عقدة الحل تتمثل في رغبتها وطموحها. يستطيع كائن من كان، لو وضع في موقع رئيس الائتلاف السوري المعارض أحمد الجربا، أن يعلن، بدون أن يلومه أحد، خلال المؤتمر الصحافي مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، أن المهمة التي يدعى الائتلاف إلى إتمامها تفوق طاقته، وأنه تبعا لهول هذه المهمة، يستقيل من واجباته تلك وليتحمل العالم مسؤولياته. الولايات المتحدة: الدولة العظمى، بل الدولة الأعظم تفعل ذلك طوال الوقت. تتنصل من مهماتها وواجباتها وتدعو العالم إلى أن يتحمل مسؤولياته حيال الكارثة.
المهمات الملقاة على عاتق الائتلاف السوري المعارض، التي تحددها واشنطن وتصر عليها، تبدو متناقضة. فهو مطالب بأن يسقط نظام الأسد، المدعوم من دولة إقليمية كبرى ودولة عظمى على نحو لا لبس فيه، والذي يتم رفده بمقاتلين مدفوعي الأجر من الخزانة الإيرانية، من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان. والائتلاف مدعو أيضا إلى مقاتلة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وإخراجها من سوريا وهزيمتها، في وقت يدفع فيه حليف واشنطن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عناصر داعش وقياداتها دفعا إلى سوريا. في حرب لم ينجح حتى الآن رغم الدعم الأمريكي والإيراني المعلن لحكومته وجيشه، في حسمها أو جعل مآلاتها تصب في مصلحته. والائتلاف مطالب أيضا بمقاتلة جبهة النصرة التي تصنفها واشنطن تنظيما إرهابيا، والتي تقاتل داعش وتدفع بمقاتليها وتشكيلاتها دفعا نحو التراجع نحو الداخل العراقي. لكن المهمة التي تلقيها واشنطن على عاتق الائتلاف لا تترافق مع تسليح منتظم للجيش السوري الحر، بما يمكنه من الصمود والمواجهة في وجه هذا الكم الهائل من الأعداء الأقوياء. والحال، هذا ليس تحميلا للائتلاف ما لا طاقة له على حمله. هذا نوع من الدعوة الواضحة إلى الهجرة من سوريا، ودعوة إلى التيقن ألا مستقبل لتلك البلاد ومن فيها. مع ذلك، أصبح للائتلاف السوري المعارض نوع من الحضور القانوني على المستوى الدولي. حضور يكاد يساويه بحضور نظام الأسد. فمع رفع واشنطن وباريس درجة تمثيله إلى مرتبة التمثيل الدبلوماسي، باتت سوريا الرسمية في الولايات المتحدة وفرنسا سوريتين: واحدة تتبع لنظام الأسد وأخرى يمثلها الائتلاف المعارض. والحال، لا يندر أن تجد في صفوف المعارضة السورية من يطمح أن يعامل على قدم المساواة مع النظام في المحافل الدولية والعواصم. وهذا طموح مشروع، لكنه أيضا يقوم على مفارقات مذهلة.
تقاتل القوات النظامية السورية قوى متعددة، وتدعي أنها كلها قوى إرهابية ظلامية تكفيرية. في هذا الادعاء إسقاط مجحف للجيش السوري الحر، لكنه ادعاء لا يخلو من صحة، إذا نظرنا إلى موزاييك القوى التي تتشكل منها المعارضة السورية. مع ذلك تقاتل القوات النظامية إلى جانب ميليشيات شيعية من لبنان والعراق وأفغانستان، لا أحد يحاسب النظام، المدجج بالسلاح الروسي والإيراني حتى أسنانه، على تحالفه مع هذه القوى الإرهابية المتطرفة، لكن الائتلاف المنزوع السلاح يحاسب على عجزه عن مقارعة النصرة وداعش.
في حربها ضد من تسميهم إرهابيين لا تأبه القوات النظامية السورية بتدمير المدن السورية وجعلها أثرا بعد عين. صور حمص تدمي قلب التاريخ نفسه. وتدمير المدن ليس تدميرا للحجر فحسب، بل هو تدمير لمصانع الاعتدال، أكنا نتحدث عن حمص أم عن بوسطن. حين تصبح المدن خرابا وأثرا بعد عين، لا يبقى للأحياء الذين كانوا يقطنونها أو يعيشون في أريافها مكانا لاستيلاد التنوع الاجتماعي والتعدد الثقافي والطائفي والإثني. تصبح البلاد كلها عبارة عن جزر عائلية أو مذهبية أو إثنية، وغالبا ما يترافق هذا التحول مع اضطهاد حاسم للنساء، إذ سرعان ما تسود ثقافة الفرسان الذكورية وتهيمن على كل ما عداها في أحوال كهذه، بوصفهم الحماة والمدافعين عما تبقى. لا يحاسب النظام على تغذية التعصب في حربه تلك، لكن الائتلاف مطالب بأن يعيد توليد التنوع والتسامح والتعدد والمساواة في مهد الخراب الذي آلت إليه المدن
تمتنع واشنطن عن تزويد مقاتلي المعارضة المعتدلين بأسلحة مضادة للطائرات، ورغم كل الاقتراحات التي قدمتها المملكة العربية السعودية من أجل ضمان عدم وقوع هذه الأسلحة في أيدي المتطرفين، إلا أن واشنطن امتنعت عن السماح بتقديم مثل هذه الأسلحة للمعارضة.. الأخبار والصور التي يبثها الناشطون منذ أشهر تدل، بما لا لبس فيه، الى أن مقاتلي المعارضة باتوا يعيشون تحت الأرض في أنفاق مجهزة للقتال والصمود، وأنهم ما عادوا معنيين كثيرا بالدفاع عما يقع فوق الأرض. والحال، يدفع التمنع الأمريكي المعارضة السورية إلى العيش تحت الأرض والموت فوقها، في حين أن الشعوب تعيش فوق الأرض وتدفن تحتها. وهذا التحول الخطير في أمكنة العيش والموت ستكون نتائجه وخيمة على سوريا ومحيطها وربما على العالم بأسره. لأنك حين تحول شعبا كاملا إلى العيش في الظلمة وتطلب منه الموت تحت نور الشمس، فإنك تجعل كل اجتماع يقيمه هؤلاء أو ينجحون في استيلاده اجتماعا بدائيا بريا، يدرك جيدا أن كل ما أنجزته الحضارة الإنسانية هش وغير قابل للصمود، وأن المأوى الوحيد والملجأ الأخير من الموت يتمثل في العيش في أمكنة الأموات وديارهم.
التمنع الأمريكي والدولي عن تسليح المعارضة السورية "المعتدلة" لن ينتج حقنا للدماء، ولن يفني المتطرفين من الجهتين بحسب ما يأمل طاقم إدارة أوباما، ولن يسمح للعالم الغربي بالبقاء في موقع المتفرج على مذبحة من شأنها أن تعيد ترتيب القيم الكونية مرة أخرى، على نحو ما أعادت نتائج الحرب العالمية الثانية ترتيب القيم في النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاه. لكنها من دون شك ستجعل من سوريا وجوارها حقلا للقتل واختبار الأسلحة لن ينجو من ثقله ضمير الإنسانية، ولن تنجو الحضارة المعاصرة من آثاره المدمرة.