الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الغائب المطلوب سورياً 

الغائب المطلوب سورياً 

07.12.2020
عبدالباسط سيدا



القدس العربي 
الاحد 6/12/2020 
القاسم المشترك بين الأنظمة الجمهورية التي ظهرت على الساحة العربية منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي تحت شعارات قومية اشتراكية مناهضة للاستعمار والامبريالية والصهيوينة، هو أنها اعتمدت على سطوة الجيش والأجهزة المخابراتية في الإمساك بالدولة والمجتمع؛ وذلك بعد أن خلخلت بنية المجتمع الأهلي، ولم تساهم – بل منعت- تشكّل مجتمع مدني فاعل، كان من شأنه الإسهام في عملية الدمقرطة التي ربما لو حدثت، لحالت دون انزياح المجتمعات التي تحكمت فيها الأنظمة المعنية نحو حالة الحطام التي نعيشها راهناً. 
فهذه الأنظمة قطعت الطريق على التطورات المجتمعية في مرحلة ما بعد الاستعمار؛ وهي تطورات كانت تعكس عملياً واقع تبلور وتنامي الشرائح المجتمعية الطموحة التي تمركزت بصورة أساسية في المدن. وكان هناك نوعاً من التفاعل بين تلك الشرائح والريف عبر صيغ متنوعة من التكامل الاقتصادي؛ ومن خلال التواصل مع المؤسسات العلمية والثقافية الوليدة فيها، خاصة الجامعات، والصحف والمجلات، والمراكز الثقافية، وحتى الجمعيات الدينية التنويرية القريبة من مجتمع تجار المدن. 
فالأنظمة المعنية هنا تدخلت بصورة مباشرة في العملية الاقتصادية، وأعاقتها، باتخاذها قرارات التأميم العشوائية والإصلاح الزراعي غير المدروس، وترويجها لشعارات عامة تضليلية مثل اشتراكية الدولة، والطريق اللارأسمالي، وثورة العمال والفلاحين؛ مما أدى إلى هيمنة الجيش تحت عباءة التنظيم “القومي الثوري”، الذي بات بفرمانات عسكرية قائداً للدولة والمجتمع على إثر الانقلابات العسكرية التي يدور حولها الكثير من الجدل، وذلك من جهة القوى التي كانت تقف وراءها، والوظائف التي انيطت بها. 
أما النتيجة التي ترتبت على هذه الوضعية بعد عقود من القمع والتسلط، فقد تمثلت في جملة من المظاهر السلبية التي قد تفسر واقع انسداد الآفاق التي تعيشها حالياً هذه المجتمعات. 
وفي مقدمة تلك المظاهر تراجع دور المؤسسات التعليمية والجهود البحثية، بل وتحولها إلى أدوات لتكريس إيديولوجية الحزب التي كانت في واقع الحال تعمل على تثبيت سلطة الزعيم الدكتاتور، المتحكّم بكل المفاصل عن طريق الأجهزة المخابراتية الاخطبوطية. وهذا ما وضع حداً للمناقشات والحوارات الفكرية، والجهود البحثية، والتفكير الحر بصورة عامة. وأدى إلى إغلاق الباب أمام حرية التعبير، وأسهم في ضمور الملكة النقدية. ومن ملامح هذه الوضعية هيمنة الصحافة الرسمية واختفاء الصحافة الحرة؛ وتحوّل الأحزاب المعارضة إلى مجرد جوقة تزينية، مهمتها اعطاء انطباع زائف بوجود نشاط سياسي خارج دائرة المسموح به من قبل النظام. 
من جهة أخرى، أدى التركيز على الجيش، وزيادة عدد المتطوعين فيه فضلاً إلى ظاهرة ترييف المدن إذا صح التعبير، لأن هؤلاء بحكم عملهم انتقلوا للسكن في العاصمة بصورة أساسية والمدن الكبرى الأخرى، ولم يقتصر هذا الأمر عليهم وحدهم، بل شمل أسرهم وأقربائهم أيضاً الذين استفادوا من التسهيلات والامتيازات الممنوحة للعسكريين وأقربائهم. هذا في حين أن المطلوب كان تمدين الريف، وتحديثه. وقد كانت هناك بوادر واعدة في هذا المجال بعد مرحلة الاستقلال مباشرة، ولكنها سرعان ما اجهضت. وما نجم عن ذلك، خاصة في مناخات هيمنة الإيديولوجية القوموية الشعاراتية التي التزمتها الأنظمة الحاكمة في الجمهوريات العربية هو تراجع الفكر الحداثوي/ النقدي بمختلف تياراته، وسيطرة التوجهات القوموية الفاشية المنحى، إلى جانب نزعات يسارية دكتاتورية غالباً ما كانت تستلهم النموذج الستاليني ليكون مثالها المفضل. 
إلى جانب ما تقدم، استحوذ الجيش على الجزء الأكبر من الميزانية، ممّا بدّد امكانية تحقيق تنمية متوازنة لمختلف القطاعات الاقتصادية، فتراجعت الزراعة والصناعة، وأصبحت التجارة مرتعاً لرجال أعمال السلطة وشركائهم. بل تغلغل الجيش ضمن مختلف القطاعات، وبدأ يمارس نشاطات لا تخص مهامه الوطنية المعلنة. وكل ذلك كان يتم تسويغه بذريعة حماية القطاع العام والتوجهات الاشتراكية، هذا في حين أنه في واقع الحال كان يقوّي سلطة الزمرة المهيمنة على الجيش والدولة، وهي الزمرة المتفاهمة، بل المتشاركة، مع “الزعيم الملهم المعجزة، القائد الأبدي”. 
هذه الحالة، التي سادت مختلف الأنظمة الجمهورية العسكرية العربية، عشناها في سوريا بأكثر مظاهرها فجاجة وقسوة وفسادا. فقد كانت لدينا مؤسسة الإسكان العسكري، والإنشاءات العسكرية، ومعامل الدفاع، والمراكز العسكرية التي تبيع المواد التموينة والسلع المنزلية للمستهلكين؛ هذا إلى جانب المداجن والمزارع الخاصة بالضباط، ومختلف المزايا التي كانت تُمنح لرجال المخابرات والعسكريين والحزبيين المشاركين في الدورات العسكرية. ومن تلك المزايا الدرجات الإضافية التي كانت تؤهل صاحب الامتياز  للدخول إلى الكليات التي يريدها في الجامعة. 
وحينما نتحدث عن دور الجيش، لا نتحدث عن مؤسسة وطنية تخص جميع السوريين، كما كان يحلو للإعلام الرسمي تصويره والدعاية له؛ أو كما كان ينطلي على البسطاء من السوريين؛ أو كما كان يتردد على ألسنة بعض المثقفين والمعارضين من باب المزاودة والتقية والمراهنة على امكانية تغيير الواقع وفق الأمنيات والعبارات المجاملاتية. 
فالجيش، خاصة في مرحلة سيطرة حافظ الأسد على مقاليد الأمور في خريف عام 1970 أصبح أداة بيد زمرة السلطة التي استخدمت النزعات الطائفية والقومية والاشتراكية، وسوقت الشعارات المضللة لفرض سلطتها، ويُشار في هذا السياق بصورة خاصة إلى التغني بخرافة التوازن الاستراتيجي، والإشادة بالاستقرار السياسي الذي كان في واقع الحال يجسد سيطرة الأجهزة المخابراتية على الدولة والمجتمع ومصائر الأفراد. 
فالأحزاب قد دُجنت. والقوى الأهلية قد فُتت وأُفسدت. والاقتصاد بقطاعاته: العام والمشترك والخاص قد بات مجرد امتداد عضوي للنظام الفاسد. والفلاحون قد تحولوا إلى مجرد جسم عديم الروح تتحكم فيه الجمعيات الفلاحية التابع بصورة مباشرة للحزب المسيطر عليه أمنياً. 
أما الكّتاب والمثقفون والأكاديميون فلم يبق أمامهم سوى الاندماج مع أجهزة السلطة أو الصمت أو الرحيل. 
واستمر الوضع هكذا على مدى عقود؛ بل تراكمت السلبيات، وتفاقمت المضاعفات في عهد وريث الجمهورية، بشار الأسد الذي لم يتمتع بحنكة والده، ولم يتمكن من الحفاظ على التوازن بين المعالادت الإقليمية؛ بل فتح البلاد أمام التغلغل الإيراني؛ وأفسد العلاقة مع العمق العربي. ولم يكن صادقاً في وعود الإصلاح التي أغدق بها على السوريين لخداعهم، ويتمكن من تثبيت نفسه. 
ونتيجة انسداد الآفاق من جميع النواحي، لم يكن أمام الشعب السوري بكل مكوناته، خاصة الشباب، سوى رفع الصوت عالياً، والمطالبة بالإصلاح أولاً؛ ومن ثم بإسقاط النظام، وذلك بعد التيقن من استحالة الإصلاح. ولعل ما يفسر جانباً من جوانب الصعوبات التي واجهتها الثورة السورية، يتشخص في معرفة النظام المسبقة، بناء على خبرته السلطوية، بعدم وجود تيار وطني مدني منظم، قادر على قيادة الثورة، وتوجيهها. لذلك ركّز على استراتيجية دفع الثورة نحو العسكرة؛ لمعرفته بأنها ستصبح إسلاموية الطابع. الأمر الذي سيبعد عنها غالبية السوريين، وسيمكنه من وضع العالم أمام بديلين سيئين فاسدين هما: إما الاستبداد وإما الإرهاب. هذا إذا أخذنا جدلاً بوجود حسن النية لدى المجتمع الدولي. 
والأمر اللافت هنا هو تمكّن النظام من تدجين الإسلام المديني، إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير، مما أدى إلى إطلاق العنان للتوجهات الإسلاموية الريفية العنيفة، التي تكاملت بهذه الصيغة أو تلك مع الاستراتيجية التي اعتمدها النظام. فبرز التطرف والتكفير والإرهاب، وكانت المبالغة في فرض التشدد على الناس. هذا إلى جانب مظاهر الفساد بسائر أشكالها. وكل ذلك أسهم في إبعاد الشباب السوري من مختلف المكونات السورية الذين أشعلوا الثورة أصلاّ، وعولوا على قدرتها في إحداث تحولات نوعية تضمن لهم ولشعبهم المستقبل الحر الكريم. 
الأصعب بالنسبة إلى الوضع السوري الراهن، لا يتمثل في السلطة البائسة المستبدة الفاسدة التي لا يمكنها الاحتفاط بحكم البلد لساعات، وليس لأشهر، من دون القوات الروسية والإيرانية، والميليشيات التابعة لها، كما لا يتمثل الأصعب في الفصائل المسلحة السورية المحسوبة على المعارضة، وهي التي تحولت في معظمها إلى أدوات في مشاريع الآخرين الإقليمية التي لا تعتبر المصالح السورية من أولوياتها، وإنما يتثمل في عدم وجود تيار وطني عام يستطيع أن يجمع بين السوريين، ويطمئنهم جميعاً، ويمكّنهم من تركيز طاقاتهم في سبيل ضمان مستقبل أفضل لهم ولأجيالهم المقبلة. 
أما الدعوات التي نراها في المشهد، وهي تطالب مرة بالعلمانية، وأخرى بالديمقراطية والليبرالية، أو الإسلاموية، أو القومية بأسمائها المختلفة، فإنها تؤدي إلى المزيد من التشتت والتفتت، وتبديد الطاقات. وكل ذلك لن يستفيد منه سوى النظام الذي هو في واقع الأمر بمثابة حكومة تصريف أعمال في دولة فاشلة، تتحكم فيها القوى الإقليمية والدولية التي وزعت البلاد في ما بينها. هذه القوى التي هي الآن بصدد تشكيل وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية بما يناسبها من حسابات ومقاييس؛ لتكون في المستقبل استمرارية للوضعية التي ثار عليها السوريون. 

*كاتب وأكاديمي سوري