الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الغارة الاسرائيلية: محاولة لخلط الاوراق لصالح الفوضى

الغارة الاسرائيلية: محاولة لخلط الاوراق لصالح الفوضى

21.05.2013
د. محمد حسام حافظ

د. محمد حسام حافظ
القدس العربي
الثلاثاء 21/5/2013
تمثل الغارة الاسرائيلية الأخيرة بلا شك استغلالاً بشعاً لما يحدث في سورية من صراع بين شعب وسـلطة. وربما نعلم جميعاً بأن الغارة ستكون بداية تدمير القدرة السورية المستقبلية على الردع العسكري، سواء بالسلاح الكيماوي أو بأي سلاح استراتيجي، بعدما يسقط نظام عمل صمام الأمان لاسرائيل طيلة الأربعين سنة الماضية. ولكن الغارة تحمل في الوقت ذاته الكثير من الدلالات والاشارات بالغة الأهمية في لحظة عصيبةٍ تحمل ثقل التاريخ والايديولوجية في آن معاً. فالشعب السوري لم يتقبل يوماً وجود كيان غاصب معتد على أرض فلسطين، كيان غارق في الايديولوجية والثيولوجية الكارهة، بل المحتقرة لكل ما حولها، سورية كانت حتى الماضي القريب جزءا حيوياً من كينونة فلسطين وشخصيتها في بلاد الشام.
شغلت القضية الفلسطينية تفكير وحياة السوريين وشكل الخبر الفلسطيني خبز سياسته ومعاشه منذ حرب فلسطين وحتى هذه اللحظة. ففي سورية 1948 البلد الذي استقل حديثاً باع السوريون والسوريات خواتم زواجهم للتبرع لجيش الانقاذ الذي انطلق من سورية، ولدعم الجيش السوري الفتي الذي لم يتجاوز عديده بضعة آلاف من الشبان غير المسلحين بالمعنى الحقيقي للكلمة. ولكن منذ ذلك العام المشؤوم ركب كثير من سياسيي هذا الشعب العنيد موجة القضية الفلسطينية، واستغلوا عمق حبه لأرضه، بل وزاودوا على وطنيته في كثير من الأحوال. وتمادى البعض في استنتاجه وتحليله فأضحى لديه الشعب مقاوما ورافضا لاسرائيل، لأن هذا السياسي أو ذاك العسكري الذي قدر له أن يجلس على رأس السلطة يوماً يدعي المقاومة متجاهلاً أن الشعب هو أساس المنعة وأن قلب كل سوري ينبض بكره الغزاة.وفي حين يعلم السوريون تمام العلم بأن الكيان العبري البغيض لا يكترث الا بأمنه الذاتي، ولا يرى أي بأسٍ من سقوط السوريين شهداء وجرحى بأيدي جيشه الوطني، الذي بناه هذا الشعب بماله ودمه… كما يعلم السوريون تمام العلم بأن من يحمل فكر الصهاينة الآثم يطرب لسماع دوي الانفجارات التي تدمر سورية… ويعلم شعبنا أيضاً بأن الغارة الاسرائيلية تعني أن الأمور في جيش النظام وصلت فعلاً الى مراحل متقدمة من فقدان السيطرة والتحكم بالمخزون الأساسي للأسلحة السورية الاستراتيجية.كل هذا نعلمه جيداً لكننا واعون أيضاً بأن الغارة الاسرائيلية الاخيرة، أو أي اعتداء اسرائيلي مستقبلي يحمل دلالات كثيرة، أهمها ان الكيان الاسرائيلي وحليفته امريكا ومن ورائهم معظم دول ما يسمى بالمجتمع الدولي، عازمون على استغلال الدم السوري لتصفية القضية العربية، واعادة ترتيب هذه المنطقة واضعاف دولها الأعرق وتحويلها لدويلات متشرذمة ذات صبغات مذهبية متناحرة، تلتفت فقط لمصالحها الضيقة، بينما يبقى الغول الاسرائيلي على بعد خطوات منها يراقب بكثب أي صحوة أو أمل بصحوة. لقد اضحى واضحاً ان المطلوب هو زعزعة الكثير من الثوابت الراسخة لهوية الانسان العربي. وما ترك الشعب السوري تحت آلة القتل طوال سنتين ويزيد ومد الحبل للنظام ليمعن في جرائمه ورسم الخط الأحمر تلو الآخر ببلادة عجيبة، ومن ثم السماح بدخول اسرائيل على خط الازمة السورية بهذه الطريقة الوقحة، إلا مؤشر فاقع الدلالة على ما ذهبنا اليه.لا ريب أن الغارة ستخلط الأوراق في المنطقة لصالح الفوضى التي ركب النظام موجتها، حينما رفض الاصغاء لمنطق التاريخ في حتمية التغيير. نعلم اليوم أن مصلحة العصابة الحاكمة في سورية قد اجتمعت مع الرؤية الاسرائيلية الهادفة إلى احداث الفوضى وخلط الأوراق، من خلال تفجير الموقف داخلياً وخارجياً… سواء بالسيارات المفخخة أو بالتفجيرات المفتعلة أو بالاعتداءات الاسرائيلية الخارجية. فالفوضى التي تجعل سورية واهنة الارادة ضعيفة التسليح تخدم حتماً الأهداف الاسرائيلية، لأن الأخيرة ستواجه مزقاً وأفراداً متناحرين في المستقبل إن استطاعوا أصلا الخروج من الفوضى الصومالية. وتلك الفوضى هي البديل المناسب لحاكمي سورية الحاليين، الذين اذا بردت جبهتها أشعلوا غيرها في لعبة سياسية دفع الآخرون ثمنها فأطالت عمر نظامهم ومنحت اسرائيل الأمان بالمقابل.صحيحٌ أن السوريين يشعرون بحالة من المرارة العميقة مما وصلت اليه أمور بلدهم، ويرون أن هذا الواقع المؤلم يعني أن الشعب السوري بكليته والدولة السورية بكل مؤسساتها قد أصيبا في المعركة الحالية اصابة فادحة خطيرة، وأن الارادة السورية المطالبة بالتغيير قد تعبت وأصابها ما أصابها من الضعف والألم. ولكن السوريين يعلمون بالمقابل أيضاً أنه ما كان بإمكانهم الصبر أكثر مما فعلوا طيلة السنوات الماضية وأن مطالبهم العادلة بالتغيير والمحاسبة قد جوبهت بالحديد والنار والقتل والدم والتحريض الطائفي والمذهبي والعرقي، وانتهاك الأعراض والمحرمات. ويدركون أن تعامل النظام مع الثورة منذ اليوم الأول أظهر عقم محاولات الحوار وأنه سيستمر في الامعان بانتهاك حرمات هذا الشعب وقتله، في سبيل البقاء في السلطة حتى لو أفناه عن بكرة أبيه. وأدرك السوريون مبكراً أن ارادة النظام الذي تخلى عن أدنى مسؤولياته الوطنية وتحول الى عصابة قتلة قد التقت مع ارادة داعميه الاقليميين، على عدم تسليم سورية إلى أبنائها إلا وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة.نعلم وسط هذا الانهاك الذي يعاني منه شعبنا أن النظام سوف يستنفر أدواته الاعلامية الاستفزازية، وسيعلن أن الغارة الاسرائيلية تثبت نظريات صموده وممانعته وأن الثورة أتت أو صبت في المصلحة الاسرائيلية، وأن كل سوري لا يقف مع النظام في هذا الظرف هو بالضرورة مع اسرائيل. وبالطبع سيقال كلام كثير من قبل المعارضة السياسية وسنسمع مواقف وأفكارا قد لا تفيد قضية السوريين، وقد لا تحترم تضحياتهم الكبيرة. ومن جهة أخرى قد نرى بعض المعارضة السياسية تغازل الولايات المتحدة الأمريكية وتتجاهل ادانة اسرائيل، أو حتى قد تمد جسوراً مشبوهة نحوها، وهذا النوع من الانحدار ربما يحصل زمن الأزمات الكبرى، ولكن رغم الألم والجوع والدم والحصار ليس لنا إلا أن نراهن على وطنية السوريين النقية وعلى وعيهم المتقدم وقدرتهم على فرز الغث من السمين. وبما أن المرحلة الحالية وهي غاية في التعقيد السياسي والعسكري، فلن تمر من دون خسائر كبيرة، وإننا مطالبون جميعاً بالتخفيف من تلك الخسائر، ولا بد لنا من طمأنة بعضنا البعض الى المستقبل… ولا بد لنا جميعاً من مخاطبة الصامتين والطلب منهم التحرك اليوم لافهام العالم بأننا لم نعد نحتمل هذا الوضع، وأن الصامتين يهمهم انهاء الحال الراهن لصالح الشعب ولصالح التغيير السياسي… ولا يمكن أيضاً تجنب مخاطبة المؤيدين بأن سورية في خطر داهم بسبب التأييد الأعمى لشخص لم يرم اسرائيل حتى بالماء طيلة أربعين عاماً… في حين أتاح غباؤه المطبق وغروره الهائل واصراره على رؤيته المريضة لمجريات الأحداث أن تصل الأمور إلى حد دمار البلد، إما بيديه أو بأيدي اسرائيل… لقد حان الوقت اليوم لنقول لمؤيدي النظام ولجميع العاملين في المراكز الحساسة في الدولة السورية أن الفظوا هذا النظام وأزلامه اليوم ولنبدأ بوضع المجريات على السكة الصحيحة.ومن جانب آخر لا بديل لمن يتصدرون المشهد ويعتبرون أنفسهم رجال المرحلة عن العمل السياسي الجاد والمحترف، من دون أدنى التفات لمصالحهم الضيقة سواء الشخصية أو المذهبية أو الحزبية. علينا أن نصرخ في وجه متصدري المشهد.. بأن كفى لعباً وولدنة.. والله لن يرحمكم التاريخ ولن يرحمكم شعبكم… ان التوافق أضحى واجباً أخلاقياً ودينياً وسياسياً وانسانياً لانهاء النظام والوقوف في وجه أي طامع خارجي. أما المعرقلون والمرجفون في الأرض فليتنحوا جانباً إن كان لديهم أدنى ذرة من الوطنية… وليغادر كل من كان سبباً في النزاعات الجانبية وتصدر الشاشات فوهن وأوهن، لكنه استمر بإصرار على متابعة الفشل.ولربما تشكل الغارة الاسرائيلية مناسبةً للتوافق ونبذ الخلاف وتحصين المناعة والارادة الوطنية، ليس لمؤيدي النظام وللصامتين القابضين على جمر النار من دون سبب فحسب، بل للمعارضة المتهافتة أيضاً.