الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الغموض الكبير والأكلاف الكبرى

الغموض الكبير والأكلاف الكبرى

05.01.2014
حازم صاغيّة



الاتحاد
السبت 3/4/2014
فيما يودع العالم عاماً بالغ الدرامية ويستقبل عاماً جديداً، تبدو المنطقة العربية وامتدادها في الشرق الأوسط العريض نهباً لغموض غير مسبوق في تاريخنا الحديث. ذاك أننا لم نشهد في عام واحد التغيرات التي شهدناها في 2013، وهو ما يُرجّح تكراره في العام 2014 كنتيجة طبيعيّة لما سبق. فموجة ثورات "الربيع العربي"، وإن لم تستقرّ على حال نهائية بعد، تتركنا أمام علامات استفهام ضخمة يطال بعضها خرائط الدول نفسها. ومثل هذا الاحتمال يحفّ بصورة خاصة بسوريا والعراق وليبيا واليمن، من دون أن يكون بلد كلبنان في منأى عنه. فقد جاءت التحولات التي عصفت بالأنظمة السياسية- الأمنية، ثم انعكست انعكاساً شفافاً على المجتمعات، لتكشف أن تلك البلدان جميعاً تعاني تصدعات هائلة تضرب نسيجها الوطني ورغبة أبنائها في العيش معاً. وتقول التجربة إن البلدان التي كانت الأشد تعرضاً للاستبداد والكبت هي البلدان الأكثر استعراضاً للرضوض العميقة في جسدها الاجتماعي. وهذا من غير أن نشير إلى الإحباطات الكثيرة والعميقة التي ضربت، في هذه الغضون، الأطراف المعنية جميعاً: فبعدما أحبط أهل النظام القديم بسقوط هذا النظام الذي كان يبدوعتياً وعصياً على السقوط، أحبط الساعون إلى نظام ديمقراطي جديد، وكان ما أحبطهم أنّ مثل هذا النظام لم ينشأ ولم ينشأ ما ينبئ بقدومه، فيما ظهرت إلى الواجهة بدلاً منه التكوينات المجتمعية والأهلية التي لم يُحسب حسابها كما يجب. وبين هؤلاء وأولئك أحبط الإسلاميون، لاسيما منهم جماعة "الإخوان المسلمين"، بالفارق الهائل بين التبشير البسيط في الزمن الذي قضوه في المعارضة وبين المسؤوليات العملية التي لم يستعدوا لها في زمن السلطة. وهو ما تجلى في أوضح أشكاله بما آلت إليه التجربة المصرية مع مرسي، وما قد تؤول إليه التجربة التونسية في ظل حركة "النهضة". ومع الانتقال من عام إلى عام آخر، تعيش المنطقة تداعيات تطورين لا يزالان غامضين في اتجاهاتهما التفصيلية وفي النتائج المنجرة عنهما: فمن جهة هناك الانكفاء النسبي للولايات المتحدة الأميركية في ظل رئاسة أوباما التسووي، ومن جهة أخرى هناك الإقدام النسبي لروسيا الاتحادية في ظل زعامة بوتين الساعي إلى بعث نفوذها. ولربما أتاح لنا الانسحاب الأميركي الموعود من أفغانستان، وما سوف يصحبه من ترتيبات إقليمية متوقعة، درجة أعلى من الوضوح على هذا الصعيد، خصوصاً مع تجدد الحديث عن "الحرب على الإرهاب" بوصفها رافعة لسياسات إقليمية ودولية ذات قاعدة أعرض من ذي قبل. لكنْ في مطلق الحالات، وبغضّ النظر عمّا تتكشّف عنه الصورة الملبدة، فإن ما يجري راهناً يبقى جديداً بالقياس إلى الوجهة التي بدأت مع أوائل السبعينيات، حين تولى السادات إخراج الاتحاد السوفييتي من مصر، ومن أجزاء أخرى في المنطقة، لصالح توسع ملحوظ أحرزه النفوذ الأميركي. ومن جهة أخرى، ليس قليل الدلالة أنّنا نفتتح العام الجديد فيما على طاولة المنطقة ثلاث خطط لثلاث تسويات لا تزال بدورها على درجة بعيدة من الغموض: واحدة في سوريا وحولها، عنوانها مؤتمر جنيف، وأخرى تدور بين إيران والدول الأعضاء في مجلس الأمن ومعها ألمانيا، وثالثة تخصّ النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني الذي وعدت إدارة أوباما ووزير خارجيتها جون كيري بإحياء العمل لتذليله. وإذ تبرز المسألة الكردية وتحتلّ موقعاً متصدّراً في السياسات السورية والعراقية والتركية، تُطرح بحدّة لا سابق لها مسائل الحدود الثنائية، بين لبنان وسوريا، كما بين سوريا والعراق، وربما أيضاً، وفي مستقبل قريب، بين سوريا وكل من الأردن وتركيا. وهذه المسألة ستتصل بدورها بمسألة الخرائط المستقبلية العتيدة التي يكثر الحديث عنها ويسميها البعض "سايكس- بيكو 2". ذاك أن من الوهم الافتراض أن تخضع سوريا، وهي قلب منطقة المشرق العربي، لكلّ هذه التغيرات الضخمة وألاّ ينعكس ذلك على جوارها وعالمها المحيط. فكيف وأن حدود سوريا مع جوارها تصدعت بأسرع مما كان متوقعاً لدى اندلاع الثورة على نظام الأسد. أما الأقطاب الإقليميون الأكبر والأشد تأثيراً في منطقة الشرق الأوسط ككل فجميعهم يعيش مخاضاً انتقالياً ليس مؤكداً على أي نحو سيكون المخرج منه: ذاك أن مصر مشغولة بطورها الجديد وتحدياته، حكماً ورئاسة ودستوراً ودوراً للجيش واقتصاداً، فضلاً عن صورة "الإخوان المسلمين" في السنوات المقبلة، وهذا فيما تدخل تركيا المرحلة التي يسميها البعض مرحلة ما بعد أردوغان، أو ما بعد حزب العدالة والتنمية، بينما تعيش إيران بدورها المضاعفات المحتملة لأي اتفاق قد يُبرم بينها وبين الدول الخمس زائداً واحداً. وقد بدأت التقارير الصحافية الغربية تتحدث عن صراعات لم تعد خفية بين "إيديولوجيي" السلطة المتشددين في طهران وبين "براغماتييها" بزعامة الرئيس حسن روحاني. وحتى إسرائيل تجد نفسها، وللمرة الأولى منذ حرب السويس في 1956، مرشحة لأن تربطها بالولايات المتحدة الأميركية علاقات لا تخلو من خلافات قد ترقى إلى تصدعات. ويفاقم هذا الغموض وضع اقتصادي بالغ السوء يطال جميع البلدان غير النفطية في المنطقة، طارحاً بحدة مسألة فرص العمل لشبان متزايدي العدد قد تستقطب الهجرة بعضهم والتطرف بعضهم الآخر. وهذا فيما الكارثة الإنسانية السورية، وما يترتب عليها اقتصادياً، تتحول شاغلاً عابراً لحدود الدول والأوطان. وثمة من يرى في اجتماع هذه المسائل الشائكة سبباً لإعادة النظر بكل ما قامت عليه حياة المجتمعات المعنية منذ نشأتها كمجتمعات وطنية في القرن العشرين. ذاك أن كل البناء الذي شُيد على خطأ هو بدوره خطأ غير قابل للحياة، لكنْ يبقى أن انفجارها كلها، وفي خلال زمن قصير جداً، سيكون ذا كلفة إنسانية هائلة يصعب أن تتحملها المنطقة، أو أي منطقة أخرى في العالم.