الرئيسة \  تقارير  \  القناص الإسرائيلي والعدسة الفلسطينية : مقاومة رقمية أيضاً!

القناص الإسرائيلي والعدسة الفلسطينية : مقاومة رقمية أيضاً!

10.10.2022
صبحي حديدي


 صبحي حديدي
القدس العربي
الاحد 9/10/2022
كتاب ربيكا ل. ستين “لقطات الشاشة: عنف الدولة مصوّراً في إسرائيل وفلسطين”، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات جامعة ستانفورد، كاليفورنيا؛ جديد متميز وشجاع نزيه، في المادّة ونطاق التغطية ومنهجية البحث وإقامة الصلة الوثيقة، المدهشة والفريدة على أكثر من صعيد، بين العدسة وموضوعها واللقطة وتجسيداتها، والخلاصات الدلالية وراء هذه المعادلات المعقدة، في منطقة قد تكون الأشدّ تعقيداً أمام الكاميرا، والأخصب والأبعد مغزى في الآن ذاته. وبذلك، لأسباب كهذه واعتبارات أخرى عديدة سواها، يعكس الكتاب فرادة عالية قلّ أن يُعثر عليها في أعمال مماثلة تُكتب في الولايات المتحدة، ثمّ تُطبع في جامعة عريقة يندر أن تجافي أو تستفز مجموعات الضغط الإسرائيلية، الناشطة بصفة خاصة في الميدان الجامعي والأكاديمي.
غير أنّ هذا الطراز من الجسارة البحثية، كما قد يصحّ وصفها، ليست غريبة عن المؤلفة؛ سواء في ميدان مؤلفاتها (لها عمل سابق، لا يقلّ تميّزاً، بعنون “الكفاحية الرقمية: الاحتلال الإسرائيلي في عصر التواصل الاجتماعي”)؛ أو في حقل الأنثروبولوجيا الثقافية الذي تدرّسه في كلية ترينيتي/ جامعة ديوك، وتفضّل اعتماده لتوصيف أنشطتها الأكاديمية ودراساتها ومقالاتها. وإذْ يضيق هذا المقام عن إنصاف كتاب ستين، بما له من كثير وافر وما عليه من قليل عابر؛ فإنّ استعراض عناوين فصوله الخمسة وخاتمته قد تعكس قسطاً غير قليل من خصوصيات محتوياته: صورة القناص (حيث التكنولوجيات الشخصية في مسارح عسكرية)، والكاميرا تحت منع التجوّل (البنى التحتية للميديا الواقعة تحت الاحتلال)، وسيناريوهات المستوطن (كاميرا المؤامرة والأخبار الزائفة)، وعيون حقوق الإنسان (متحف الاحتلال العسكري)، ومرثية العسكري (كاميرات المعركة واستيهامات الدولة)، والتذييل (عظام مكسرة، أحلام كسيرة: سياسة الفشل).
وفي المقدمة تختار ستين إعادة سرد حكاية إيلور عزريا، الجندي الإسرائيلي فرنسيّ الجنسية أيضاً، الذي أجهز على الفلسطيني عبد الفتاح الشريف في مدينة الخليل، بدم بارد ومن مسافة لصيقة، رغم أنّ الفلسطيني كان جريحاً ممداً على الأرض ولا قدرة له على الحراك. الواقعة التقطها المصوّر الفلسطيني عماد أبو شمسية الذي كان على مقربة، وتسهب ستين في وصف انتشار الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، واضطرار الجيش الإسرائيلي إلى محاكمة عزريا بتهمة القتل غير العمد والحكم عليه بالسجن 18 شهراً، رغم أنّ المشهد يكذّب هذا التوصيف تماماً. رئيس أركان الاحتلال يومذاك، غادي إيزنكوت، خفّض العقوبة، وحذت حذوه لجنة خاصة خفضت ما تبقى، وثالثة أطلقت سراح عزريا قبل حلول التخفيض الثالث لتمكينه من حضور زفاف أخته؛ وفي الغضون كان القاتل قد انقلب إلى “بطل قومي” محبوب الدهماء الإسرائيلية في الشوارع والحانات والقطعات العسكرية، فلم يتخلف معظم ساسة الاحتلال، وعلى رأسهم رئيس الحكومة الأسبق بنيامين نتنياهو شخصياً، عن الترحيب بالإفراج عنه.
وكي لا يكون حاضر عزريا منفصلاً عن الماضي القريب لكبار قادته، مفكرين وساسة وضباطاً، تستقرّ ستين في اختتام كتابها عند مشهد آخر يعود إلى شباط (فبراير) 1988، خلال الأشهر الابتدائية لاندلاع الانتفاضة الأولى؛ التقطه مصوّر تلفزة CBS الأمريكية هذه المرّة، لجنود إسرائيليين يستخدمون صخوراً لتكسير عظام شبان فلسطينيين مقيّدي الأيدي، تنفيذاً (على نحو حرفي!) لتعليمات وزير الدفاع آنذاك إسحق رابين، باستخدام القوّة الغاشمة ضدّ نشطاء الانتفاضة، و”تكسير عظامهم”. هي ذاتها الشيفرة، العسكرية والأمنية والاستيطانية والعنصرية، التي نهضت على أركانها سلطة الاحتلال، وترعرعت في نفوس الجندي والمستوطن والسياسي سنة بعد أخرى، ثمّ تغوّلت أكثر فأكثر، وتوحّشت وتفلتت من كلّ حساب وعقاب، وأمثلتها تتكرر كلّ يوم في كلّ متر مربع من فلسطين المحتلة.
بلا استثناء، كما يستوجب الواقع اليومي؛ ومن النهر إلى البحر، كما تشير الجغرافيا؛ وعبر شتى أشكال المقاومة ومقتضياتها وسياقاتها، بما فيها ذلك الطراز الخاصّ من مقاومة مرئية مسموعة يستدعيها العصر، بين بندقية القنّاص والعدسة الرقمية.