الرئيسة \  واحة اللقاء  \  القنبلة المذهبية بديلة عن القنبلة النووية؟

القنبلة المذهبية بديلة عن القنبلة النووية؟

17.06.2014
مطاع صفدي



القدس العربي
الاثنين 16/6/2014
في الوقت الذي يعتقد أوباما أنه سائر نحو إقناع إيران بإلغاء مشروعها النووي، تنفجر قنبلة إيران الأخرى والأخطر من القنابل النووية الممنوعة من الإستعمال. إنها القنبلة المذهبية التي تفشّت تفجيراتها ملء أصقاع المنطقة العربية ومحيطها الإسلامي وهاهي تبلغ ذروة مريعة في الخطورة وقدرة هائلة على الانتشار مع الحدث الداعشي الذي يجتاج جناحيْ المشرق من الشام إلى بلاد مابين النهرين.
هذه القنبلة المذهبية، صنيعة الخمينية، المركزية، كانت ولا شك هي الوليدة البكر لما سُمي بالثورة الإسلاموية. ولم تكن ولادة صدْفية، بل فرضت وجودها في الوقت المناسب تاريخياً، بالنسبة لمقدمات الواقع المشرقي الغارق آنذاك في عقابيل الهزيمة الأخيرة والكبرى لنهضة القومية العربية، مع توقيع خليفة عبد الناصر، غير الشرعي، السادات الذي ندب نفسه عن "الأمة" ليُوقّع إتفاقية سلام مع اسرائيل، ينهي بموجبها تاريخ الصراع العربي الصهيوني على مستوى الدول. أو بالأحرى هي الإتفاقية السوداء التي تقدم للصهيونية اعترافاً مجانياً بشرعية اغتصاب فلسطين، وتضع خاتمة بائسة لواحد من أعظم أسباب النهضة الوجودية للعرب في العصر الحاضر. كان المطلوب هو حرمان النهضة القومية الشاملة من محركها السياسي الوجودي، وهو إنجاز شروط الإستقلال العربي باجتثاث مخلفات الإستعمار في أقطاره، ومن أحدثها ولا شك كان هو اغتصاب الوطن الفلسطيني، وطرْدُ شعبه، وإحلال شرائحَ من شُذّاذ الآفاق في بيوته ومزارعه ومُدُنه.
القنبلة المذهبية انزلت السياسة الوجودية عن عرشها، من ذروة المشروع النهضوي كما فهمته طلائع الأقطار العربية المتحركة. لتُحِلّ مكانَه تنويعاتٍ من موضوعة الأسطرات التدينية القروسطية. عدّلت وجهة الصراع من ذات نهضوية ضد أعدائها الخارجيين، إلى محاور نزاعات ثانوية داخلية تتنافس للعب الأدوار الأولى ضد بعضها في مختلف نواحي الحياة العامة والخاصة. فهزيمة الاعتراف العربي الرسمي بمشروعية إسرائيل، عبر اتفاقية السادات في كمب ديفيد، كانت في أشد الحاجة لاستمرارها إلى حماية شاملة من قِبَل خارطة جيوسياسية جديدة تتصدَّى سلفاً لإحباط قوى المقاومة العربية، الرافضة للهزيمة؛ إذ كان (العدو) يتوقع كل أشكال الغضب الشعبي العام، التي ستندلع عبر المسيرة القادمة لتأصيل الهزيمة في الواقع السياسي العربي. في هذا المنعطف التاريخي ولدت الخمينية التي عجّلت بفرض أجندتها. زرعت بذرة الفتنة الكبرى في رفع شعار: الهدف نحو تل أبيب يمر ببغداد. فكانت حرب الثماني سنوات العجاف بين الجارين الكبيرين: إيران والعراق، بمثابة مَهْلكةٍ همجية هائلة للشعبين معاً، وللنهضة العربية وجناحها الإسلامي الآخر، كانت بمثابة تمرينِها الأول، والنموذجِ الناجح تماماً بفظاعاته المطلقة، لإنطلاق (مبادئ) هذه الإستراتيجية الجيوسياسية التي تنتظر مستقبل المنطقة كلها. كان المبدأ الإفتتاحي قلْبَ وجهة العدو التاريخي، من الغاصب الأجنبي المعتدي والخارجي، إلى وجهة إيقاع الإنفصام في عمق الجسم المجتمعي والقومي للكيان العربي والإسلامي. كان من المفترض، بل من المنتظر أن يغرق هذا الجسم في صراعات أعضائه، حتى خلاياه، فيما بعضها؛ أن يصبح العدو الأصلي، إسرائيل، مركوناً، نسياً منسياً؛ بينما تتحلَّل مجتمعات العرب إلى أصغر فئوياتها. أن يصبح أشباح أمواتها من قرون، هم حكامها للقرن العشرين والواحد والعشرين.
لم تأت (الثورة الإسلامية) استكمالاً للثورة العربية، لم تأت الخمينية تصحيحاً لعثرات القومية العربية.. كل هذه الآمال التي استبشر بها بعض مثقفي اليسار العربي والإيراني خلال مرحلة سقوط الشاهنامية، ذهبت أدراج الرياح مع تلك الحملة الاولى والمشؤومة للثورة في حربها ضد العراق. كانت تلك الممارسة مدخلاً كئيباً لتفعيل الهزيمة القومية إزاء الصهيونية المغتصبة، ونقلها ونشرها ملء العلاقات العربية الفارسية. باتت مجتمعات المنطقة تعيش على إيقاع انبعاثات مشبوهة لشعوبيات العصور السحيقة، وإن كانت – هذه الشعوبيات – أمست تتكنّى بالهويات الدينية. فالقنبلة المذهبية تتفرقع إلى تعددية من قنابل أخرى فرعية، وموقوتة باحثة عن البؤر الإجتماعية المناسبة لتفجرها في الزمكانية المختارة.
طيلة أربعة عقود تقريباً اشتغل العقل السياسي السلطوي، وحتى الشعبي، على مفردات القاموس المذهبي، بينما مضت مجتمعاتنا في مصائر التحلّل والاهتراء في مختلف مؤسساتها المدنية. تم تزييح ثقافة التغيير من مركزية الهموم العامة الأولى، لتأخذ مكانَها اصطفافاتُ الطَقْسَنَة وتحزُّباتها الدينية المصطنعة؛ وقد شرعت القنبلة المذهبية خاصة في نسف الروابط الطبيعية بين مكونات كل مجتمع عربي بحسب ظروفه الديموغرافية .. إلى حد تفتيت كل مكِّون على حدة، تذريره إلى أصغر فئوياته؛ أمسى العداء للعدو الخارجي منقلباً إلى دواخل الشعوب العربية، داعماً العلاقات الضدّية بين هذه الفئويات. لم يعد المذهب الواحد مرجعاً متفقاً عليه حتى بين أتباعه. تمّ فرطُه وإفراطه إلى طُرُق ونِحَل، وهذه بدورها توزعت إلى أجهزة دعوات وشراذم من شبكيات شخصانية تصادر المسلمات العقلية المنظِّمة لآلية الإجتماع السياسي والثقافي وحتى الإقتصادي لكل متحد إنساني عريق. فما كانت تؤديه أطروحة إعادة أسلمة المسلمين، هو إبطال عصر النهضة الحداثية المستقلة من أسسه الفكرية وأنظمته التطويرية المستجدة. فلم يعد همّ أعداء العرب وقْفَ حراك التاريخ النهضوي لشعوبهم، تخلّوا عن قيادته لأدعياء الإسلام السياسوي كيما يردوا تاريخ أمتهم على أعقابه، كيما يحرموه من حاضره ومستقبله، ويفرضوا عليه الاحتباس في قفص ماضيه وحده، الذي لم يعد له وجود إلا عبر تأويلات شيوخه، العلماء الجَهَلة، وفتاواهم الملفّقة.
أمريكا تسمح بتفجير القنبلة المذهبية مقابل منع الخمينية عن استكمال القنبلة النووية، لعلمها يقينياً أن هذه المذهبية هي الأفعل والأقدر على تحقيق صميم الهدف الأزلي للغرب في إلغاء الشرق. فالعالم العربي الإسلامي هو الذي سيتولى تدمير ذاته بذاته. ومن هنا ينبغي أن يُفهم أوباما، وسرِّ استراتيجية عدم التدخل التي أنتجته "مؤسسة" الحكم الأمريكي قبل شعبه، من أجل أن يأخذ على عاتقه كل أعباء تنفيذها. فلن يتحمل مسؤوليتها رئيس عادي، من السلالة البيضاء والشقراء. لون الرئيس الحالي سوف يسمح بضم شخصه الكريم إلى ذلك العالم الآخر الذي سيجعله يتدّمر ذاتياً.. نعم، أمريكا لن تتدخل في العراق لتنقذ الطغمة المذهبية الحاكمة والفاسدة فسادَ ما يُسمى العملية السياسية التي ركّبها سادة الغزو البوشي – نسبة إلى الرئيس بوش الصغير – لكي تستمر مفاعيل الغزو إلى ما بعد جلاء قواته، وإلى أطول فترة ممكنة، مطلوبة بانتظار دفعة أخرى من انفجارات القنبلة المذهبية. فالغرب كله وأمريكا قائدته، لم يعد يؤمن أن منازعات الشرق، العربي والإسلامي خاصة منه، يمكن أن تحلّها الجيوش الأجنبية، ولا حتى جيوش دول هذا العالم الشرقي نفسه، فالمساحات الصحراوية الواسعة التي تكاد تغطي جغرافيته باتت مؤهلة فحسب لفتح نوع الجبهات المتنقلة، لنوع الحروب الشبيهة بغزوات البدو سكانه الأصليين. فمن يتقاتل في هذه الجبهات هي أشكال مشوهة عن نماذج القبائل القديمة: هذا ما تثبته نزاعات ليبيا واليمن ولبنان وسورية.. وأخيراً العراق.
لكن انفجارات القنبلة المذهبية في عراق اليوم قد تتطور إلى الحال الذروية من رأس هرم عال، يقوم على القاعدة الأوسع التي قد تشمل صحراء المشرق في كل جهاتها وجنباتها: وعندئذ لن يستطيع الغرب أن يحجز فعاليته في دائرة تدبير أسباب الحروب القبلية فحسب كعادته، إذ ستنتقل، أو إنها انتقلت فعلاً من طورها القبلي إلى الطور الأممي. هكذا صار واقعياً جداً الإعتراف شبه الجماعي، ما بين الشمال والجنوب، أن القنبلة المذهبية قد خرجت انفجاراتها عن السيطرة. فهي لم تعد تطلق حِمَمَها هنا وهناك لحساب هذه الدولة أو تلك. بل لعلها وصلت أو تخطّت حتى حدود صانعيها الأوائل، وتمردَّت على خطط أبرع مهندسيها الأصليين. ذلك أن من طبيعة المغازي البدوية المعاصرة أنها فاقدة، عن قصدٍ وتصميم، لمنظومة أخلاق الشرف للبداوة الأولى؛ باتت المذهبيات تمتح قواها من مستودعات الكراهية المكبوتة، التي سوف تتبادل فظائعها ما بين مكوناتها، ما أن تحين ساعات الإنفجارات الموقوتة.
لن تنتظر منتصراً، ولن تشمت بمنهزم. ليس الجميع سواسية في أدوارهم ومآلات أفعالهم. لكن المحصلة الأخيرة لكل صراع مذهبي لم تعد ملكاً لأحد من هؤلاء. لا بأس في أن يتابع الفرقاء ادعاءَ الشجاعة كلٌّ بطريقته. لكن أحداً من هؤلاء لن يملك من جديد جائزةَ الإدعاء بملكية الشجاعة ومعها الحقيقة. ذلك هو رهان النهضة المغدورة الأخير.. وسوف يظل امتيازَها الفريد، لن تضفيه إلا على فرسانها الأصليين، الذين لم يولدوا بعد..
٭ مفكر عربي مقيم في باريس