القياصرة وكوابيس المياه الدافئة

القدس العربي
الاربعاء 27/1/2021
أيقظت الأزمة السورية شياطين العداوات القديمة بين موسكو وأنقرة على مدى ثلاثة قرون، قبل أن يتوصل الجانبان إلى توافق يضمن التعايش القلق بين الطرفين على الأراضي السورية، فالطعن في الظهر مع الابتسامات الصفراء في الوجه تطبع هذه العلاقات رغم توطيد بعض العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين، وصفقة الصواريخ (اس.اس. 400) التي أغضبت أمريكا الحليف في حلف الناتو. فالجانبان ورغم عداواتهما التاريخية وجدا أن مصالحهما في سوريا يجب أن تتحاشى العداوات القديمة ولو أنها لم تمح من الذاكرة.
مياه البحر المتوسط الدافئة
ظل هاجس القياصرة وكابوسهم الذي كان يحرمهم النوم هو فقدان سيطرتهم على البحر الأسود بوابة عبورهم إلى مياه البحر المتوسط الدافئة، لتمرير سفنهم التجارية والحربية.
ومنذ أن نشأت الدولة العثمانية في بداية القرن الرابع عشر، ثم سرعة انتشارها على حساب البيزنطيين، وإمارات أوروبا الشرقية، دبت الخشية في قلوب قياصرة روسيا من امتداد الزحف العثماني نحو الشمال ليشمل البحر الأسود، وبحر قزوين ومنطقة آسيا الوسطى والقوقاز، والدخول في حروب لا تنتهي مع الجيش الإنكشاري العثماني الذي بات من اقوى الجيوش في أوروبا.
الكوابيس هذه لم تكن مجرد أضغاث أحلام، بل باتت حقيقة واقعة، فالجيش الإنكشاري الذي انفتحت شهيته على الفتوحات في الاتجاهات الأربعة، فاحتل جزءا كبيرا من أوروبا الشرقية، وجزءا من الامبراطورية الفارسية، واتجه شمالا ليحتل القرم، ويلتف حول البحر الأسود، وبحر قزوين ليجعل الكوابيس تقض مضاجع قياصرة روسيا قولا وفعلا. فاندلعت الحرب تلو الأخرى لفك حصار البحر الأسود، والدفاع عن الحدود الروسية التي بات الإنكشاريون يهددونها باستمرار، وخاصة في عهد أعظم سلاطين آل عثمان: سليمان القانوني.
ولم يجد الروس حيلة لصد الهجمات العثمانية إلا بالتحالفات مع دول أوروبا الشرقية، والنمسا التي ذاقت الأمرين في حصار العثمانيين لها عدة مرات (في العام 1529،1532،1683) رغم فشلهم بفتحها.
بعد تولي سليم الثاني "السكير" عرش السلطنة من والده سليمان، قرر بعد سكرة أن يؤدب قيصر روسيا على إثر هجمات روسية على القرم فجهز حملة كبيرة العام 1570 بمساعدة التتار، وحطم دفاعات الروس ودخل موسكو وأحرق أحياء كبيرة منها، فهرب القيصر إيفان الرهيب من موسكو بعد أن وصل الحريق إلى قصر الكرملين، وأجبر على دفع الجزية.
لم تنته هذه الحروب، وعلى مبدأ الحرب كر وفر استطاع القيصر بطرس الأكبر أن ينتصر على العثمانيين بعد حرب استمرت 14 سنة انتهت في العام 1700 بمعاهدة وصل فيها الروس إلى مشارف البحر الأسود. وبنى أسطولا ضخما لعبور الدردنيل، والبوسفور للوصول إلى مياه المتوسط الدافئة. لكن بطرس الأكبر مات ولم يحقق حلمه وحلم أسلافه.
في العام 1774 استطاعت القيصرة كاترين الثانية بعد حروب متعددة خلال القرن أن توقع هدنة مع العثمانيين واتفاقية تسمح للأسطول الروسي بالعبور إلى المتوسط. وكانت المرة الأولى التي مرت فيها سفن روسية عبر الدردنيل والبوسفور. (وسرعان ما استغلتها روسيا لدعم المتمردين على السلطنة العثمانية في مصر دعما لمحمد علي باشا، وسورية في دعم الضاهر عمر).
في أواسط القرن التاسع عشر استغل القيصر نيقولا الأول ضعف السلطنة العثمانية التي باتت ما سمي "بالرجل المريض" في أوروبا ليقوم بحملة عسكرية في مولدافيا وفلاشيا (رومانيا الحالية) لحماية الممرات البحرية بين البحر الأسود والمتوسط، بحجة حماية الأقليات الارثوذكسية.
بلاد " ستان" كابوس آخر
الدولتان الأكثر عداوة خلال القرون الثلاثة الماضية، من العداوات الروسية العثمانية: فرنسا وبريطانيا. لكن المصالح تجمع الأعداء مرحليا ضد عدو مشترك. إذ اجتمع الخصمان على معاداة روسيا بعد شعورهما بتهديدات روسيا بتمددها إلى البحر المتوسط، والتقت المصالح مع "الرجل المريض" خشية أن تتمدد الأطماع الروسية إلى بلاد الستان (كازاخستان، اوزباكستان، تركمانستان،قرغيزستان، وأذربيجان) وأقنعت بريطانيا نابوليون الثالث الدخول معها في حرب ضد روسيا في القرم والاستيلاء على المرفأ الروسي الذي يضم الأسطول الروسي في سيباستبول (1853-1856 حصار سيباستبول) ووافق نابوليون الثالث (لويس فيليب) ممنيا النفس بالانتقام لعمه نابوليون بونابرت الذي هزم في معركة موسكو، والسيطرة على بلاد "الستان" (التي هي أقرب لتركيا منها لروسيا) والمدينة المرفأ على البحر الأسود سيباستبول، لكن الحملة كانت خسارة كبيرة للحليفين الأعداء رغم هزيمة جيش القيصر، بعد أن ضربت الكوليرا والتيفوس الجيوش الفرنسية الانكليزية.
انتهت الحرب بمعاهدة باريس وأجبرت فيها روسيا على التراجع عن احتلال الأراضي التي سيطرت عليها من السلطنة، وإلغاء مطلب حماية المسيحيين الأرثوذكس.
ويؤكد المؤرخون أن هذه المعاهدة، أخرت سقوط الإمبراطورية العثمانية، وهذا أيضا ما كانت تهدف إليه الحملة البريطانية الفرنسية، كي تتمكن الدولتان الاستعماريتان من السيطرة على تركة "الرجل المريض" في الوقت المناسب وهذا ما حصل بعد سقوطها بعد الحرب العالمية الأولى.
سوريا وتحقيق الحلم القيصري
لا شك أن العام 2015 سيسجل في تاريخ روسيا بعام تحقيق الحلم القيصري في الوصول إلى المياه الدافئة ليس فقط مرورا، بل بقواعد بحرية وعسكرية لم تكن تخطر على بال قيصر من قياصرة روسيا، ولا زعماء السوفييت، أومن جاء بعدهم.
وسيسجل بوتين اسمه في التاريخ أنه هو من حقق حلم أسلافه، ومن أعاد السيطرة الروسية على جزيرة القرم، وعلى البحر الأسود.
فرئيس النظام السوري بشار الأسد أنقذ نفسه، ونظامه، بمقايضة الدعم الروسي مقابل بناء قاعدة حميميم العسكرية، وقاعدة طرطوس البحرية. بالإضافة إلى العديد من نقاط التواجد الروسي في طول البلاد وعرضها. دون احتجاج يذكر من قبل الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي أهملت دورها في الشرق الأوسط خلال فترتي رئاسة أوباما، وترامب. هذا الإهمال الذي وعد بايدن بإعادة النظر فيه.
الروس سبقهم إلى سوريا الأمريكان، والإيرانيون، ثم الأتراك، وهم يسيرون بين خطوط التماس بكثير من الحذر، لكنهم غير مستعدين أبدا التخلي عن مواقعهم على ضفاف البحر المتوسط الذين حلموا به خلال قرون.