الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الكرد ومصير علاقتهم بسوريا

الكرد ومصير علاقتهم بسوريا

18.08.2013
غازي دحمان

المستقبل
الاحد 18/8/2013
إذا كان للمكوّنات السورية الأخرى سبب للثورة على نظام الحكم الجائر في بلادهم، فإن ثورة الكرد تتزاوج في داخلها أسباب الظلم والتمييز والتهميش. وإذا كان يحسب لأنظمة العسكر السورية عدالتها في توزيع الظلم على كافة مكونات المجتمع السوري العرقية والطائفية، فإن الكرد إضافة لذلك، عانوا من التهميش المقصود والعزل السياسي، بالإضافة إلى التشكيك الدائم بوطنيتهم.
هذه الخلفية والعوامل المشكلة لها، جعلت مشاركة المكوّن الكردي في الثورة السورية منذ بدايتها تبدو أمراً طبيعياً، رغم أن نظام الحكم إتبع إستراتيجية التمييز لشق صف الثورة وتفتيتها، حيث لم يعمد إلى إتباع القوة العنيفة في مواجهة الحراك الكردي، الذي عمّ في أغلب المناطق الكردية. كما حاول النظام إضعاف وعزل القوى الثورية في المجتمع الكردي من خلال طرحه للحوار مع بعض الشخصيات القريبة منه والنافذه في المجتمع الكردي. وهي الواجهات السياسية والإجتماعية التي صنعها على مدار عقود، وسعى من خلالها إلى إختراق المكونات السورية، كما عمل النظام على الإستجابة لبعض المطالب التاريخية المحقة للكرد.
غير أن الكرد شأنهم شأن بقية المجتمع السوري، يعانون من الإنقسامات والأمراض السياسية التي يعيشها مجتمعهم الأم، واستطاع النظام أن يوجد ركائز له داخل المجتمع الكردي كان لها الأثر في التشويش على الحراك الكردي، والتأثير في مساراته ومآلاته، الأمر الذي بدأ يطرح تساؤلات مهمة حول مستقبل علاقتهم بسورية الدولة والثورة.
ثمة رأي يقول بإستمرار الكرد ضمن النسيج الوطني السوري، رغم تمايز المطلبية الكردية في بعض النقاط عن مطلبية نظرائهم العرب، وإرتباطهم بالإطار الكردي الأشمل. ووفق هذا الرأي، فإن الروح القومية لكرد سوريا انتعشت بوصفها رد فعل على سياسات التمييز والإنكار التي مورست ضدهم لعقود من الزمن. وصحيح شكّهم وعدم الاطمئنان للوعود التي تقدم لهم، بدافع من إحساس عميق بالتهميش، تراكم تاريخياً لديهم، وشعورهم بأنهم كانوا دائما وقودا لمختلف القوى السياسية المتصارعة، التي ما إن حققت أهدافها حتى تناست ما رفعته من شعارات لرد المظالم.. لكن الصحيح أيضاً، أن الهموم القومية للكرد السوريين لم تتطور بوصفها اتجاها عاما، كهموم مستقلة وبالقطع مع الهموم الوطنية، ولنقل بثقة إنها لم تطرح يوما بوصفها سمة غالبة على حساب الولاء للوطن. والحال، إذا استثنينا قلة من الأصوات التي لا تزال تروّج لأفكار متطرفة عن الانفصال، فإن الحراك الكردي يتفق عموما على شعارات تؤكد الانتماء السوري، وتدعو إلى الحريات العامة وإلغاء التمييز، وتمتين أواصر الأخوة العربية الكردية.
ويعزز هذا التوجه حجته بحقائق ومعطيات جغرافية صلبة، إذ لا يسمح توزّع المجتمعات المحلية الكردية السورية الراهنة، بحكم تباعدها الجغرافي الكبير جداً، بأيّ حديثٍ ممكن عن مجتمعٍ كرديّ متواصل وممتدّ جغرافياً ومناطقياً وبشرياً يشكّل ما تمّ اختراعه باسم "كردستان الغربية"، وأحياناً "غرب كردستان"، ويسمح بتصوّر قيام إقليم كرديّ سوريّ على غرار إقليم شمال العراق، إذ تفتقد وحدات المجتمع الكرديّ السوري الإجمالي تماماً إلى ما يتميّز به المجتمع الكرديّ في كلّ من كردستان تركيا وكردستان العراق من تواصلٍ مناطقيّ وجغرافيّ وبشريّ، وهو ما تنمذجه حالة المجتمع الكرديّ المحليّ في عفرين، بينما الاتصال البشري الكرديّ ما بين كرد عين العرب وكرد الجزيرة يمرّ بتداخلات سكانيّة عربية كثيفة، فضلاً عن أنّ محافظة الجزيرة نفسها متعدّدة الإثنيات.
وبذلك، لا يسمح هذا التوزّع بأيّ طرحٍ لحلّ "المسألة الكردية السورية" على قاعدة مفهوم "كردستان الكبرى" خارج الإطار الوطنيّ السوري، من دون إرباك وإعادة رسم الحدود السياسية القائمة للدول الراهنة. وهذا غير واقعيّ على المستويات المختلفة في منظور العقود الثلاثة المقبلة على الأقل، فالتماس البشريّ الجغرافيّ كاملٌ بين كرد القامشلي وكرد كردستان تركيّا، لكنّه ضعيف جغرافياً وبشرياً مع كرد إقليم العراق، وتتخلّله مناطق عربيّة كثيفة ومناطق متداخلة عربيّة وكرديّة، كما أنّ المسألة السورية تختلف عن المسألتين التركية والعراقية، ففي العراق وتركيا يعيش الكرد فوق أرضهم التاريخيّة، بينما كرد الجزيرة في معظمهم مهاجرون من كردستان تركيا إلى الجزيرة السورية.
رأي أخر يرى الأمور من زاوية مختلفة، ويلفت النظر إلى جملة المعطيات التي ترسخت في العامين الماضيين من عمر الثورة السورية، حيث أدى إنسحاب قوات النظام والجيش الحر من المناطق الكردية إلى تسلم قوات كردية تابعة لتنظيمات سياسية معروفة أمر تسيير الأمن وإدارة المناطق، ويرفع بعض هذه القوى شعار الإنفصال عن سوريا، أو إدارة المناطق المحررة بشكل منفصل عن الوضع السوري عموماً، ولعل ما يزيد من شكوك أصحاب هذا الرأي بتلك التوجهات، حقيقة الإندماج الحاصل بين القوى الكردية السورية وكرد إقليم كردستان بزعامة مسعود برزاني. ويذهب هؤلاء أبعد من ذلك عبر تأكيدهم أن راية كرد سوريا باتت معقودة بيد البرزاني.
ولعل ما يعزز من وجهة النظر هذه سلوك بعض الأطراف السياسية الكردية المنضوية في الأطر القيادية للثورة السورية، وبخاصة بعض الأحزاب المشاركة في مجالس قيادة الثورة والتي طالما عمدت إلى عزل نفسها عن الحدث السوري بعموميته مع التركيز على قضية المطالب الكردية وحدها، في الإدارة والحكم وصياغة الدستور وإسم الدولة، وإتباع إستراتيجية الانسحاب أمام أي ملف إشكالي من وجهة نظر هذه القوى، وكذلك إتباع تكتيك خذ وطالب، بمعنى كلما حصلت الأطراف الكردية على مطلب تعمد إلى رفع سقفها والبحث في مطالب جديدة، ترى القوى السياسية السورية الأخرى بأن الوقت ليس وقت طرح مثل هذه القضايا، مما يدفعها إلى الشك في حقيقة المشاركة الكردية في الثورة السورية عموماً.
لا يلغي كل ذلك حقيقة تضحيات الكرد و مشاركتهم الفاعلة في الثورة السورية والدور الريادي الذي لعبوه في مختلف المجالات، وليس من المتوقع أن تنتهي مثل تلك الإشكاليات في وقت قريب، رغم أنها قد تبدو من منظار أخر إشكالات صحية وصحيحة ويمكن إدراجها ضمن سياق تصحيح الخلل في الوضع السوري عموماً، غير أن ذلك يتطلب من النخب السورية العربية والكردية أن تدرك هذه الحقيقة، وتبادر جميعها لتحرير سياساتها مما يشوبها من حسابات ضيقة وأنانية ومن تعصب قومي، وتقديم الأهداف الديموقراطية العامة على ما عداها.