الرئيسة \  مشاركات  \  الكسل الفكري الذي بُلينا به

الكسل الفكري الذي بُلينا به

14.03.2016
أحمد الخطيب


المأساة التي نشاهدها اليوم، لم تستثن أرضاً عربية واحدة. وأمام عجزنا عن القيام بعمل عربي جدّي يصحح المسار لرفع الظلم عن المواطن العربي، الذي يعاني من البطالة والفقر والذل والبطش، يصبح الجو مواتياً ومناسباً لقوى التطرّف أن تستغل الصراع الطائفي، وتلعب الدور الأساسي في رسم المشهد السياسي الدموي المؤلم الذي نعيشه الآن، فكيف حدث هذا؟
نحن جيل التحرر الوطني من الاستعمار نفتخر جميعنا، ونتباهى، بانجازاتنا في تلك المرحلة، عندما هبّ الشعب العربي كله من المحيط الى الخليج ثائراً على الاستعمار، وقدم تضحيات سخية تشهد لها مشانق بيروت والشام، وتوالت مواكب الشهداء في المغرب العربي، وعلى رأسها مليون شهيد في الجزائر، وجاء جمال عبد الناصر ليلهم هذه الثورات ضد الاستعمار، وساهم في محور دول عدم الانحياز الذي تصدى لمطامع القطبين المتناحرين آنذاك الروسي والأميركي.
توقف القطار
كل ذلك كان إنجازاً رائعاً افتخرنا به، ولا نزال، إلا أن قطارنا توقف عن السير، ولم يكمل المشوار، مشوار مرحلة البناء الداخلية لتحرير المواطن العربي من الفقر والمرض والجهل، وحماية حريته وكرامته كمواطن له الحق في المشاركة باتخاذ القرار.
لم تمتلك الحركة التحررية أي مشروع بناء لهذه الأمة، حتى الشعارات التي كانت ترفعها لم تتعد كونها شعارات فقط، فمثلاً لم يكن هناك أي مشروع وحدوي مع أن الوحدة كانت من أولوياتها، ولم يكن هناك مشروع بناء للدولة يلبي طموحات مجتمعاتنا، وليس هناك مشروع عادل يحل مشكلة الأقليات المتعددة في أرجاء هذا الوطن الشاسع ويقضي على الفروق العنصرية والطائفية، التي غذّاها المستعمر سنين عديدة في سياسته التي تعتمد على "فرّق تسد".
لم ننتبه لهذه المشاكل، ولم نفكر بحلول جدية وواقعية تبطل مفعول هذه الألغام التي زرعت في طريقنا، فمن جاء الى السلطة كان همّه البقاء فيها، معتمداً على اسلحته المالية أو الأمنية، فاستسلمنا لهذا القدر، وربطنا مصيرنا بالمنقذ أو المخلّص، وهذه ثقافة عربية ورثناها قروناً عدة، وقضينا أعواماً طويلة ونحن نبحث عن القائد، أو الزعيم، أو الحاكم العادل، الذي يقودنا الى الخلاص، ففقدنا شخصيتنا وكرامتنا، ورضينا بأن نكون قطيعاً من الغنم يقوده راعٍ، ورجعنا الى عبادة الأوثان، ولم نستطع أن نستنبط الوسائل الجديدة في الموجهة، وأصبنا بالعقم، وأصبحت أحزابنا دكاكين صغيرة مغلقة على نفسها تجتر ثقافة "عفى عليها الدهر وشرب"، بعيدة عن الشارع العربي وهمومه.
ولما جاء الربيع العربي، وأطاح الطغاة، اتضح أنه عاجز عن ملء حال الفراغ في الدول التي هبت عليها رياح التغيير، فاحتلته الأحزاب الدينية، وتصدرت المشهد، حيث كانت منذ تأسيسها ملتصقة بالجماهير، وتلبي مطالبهم الروحية والمادية بإمكانات مادية ذاتية هائلة. كان نشاطاً حزبياً يلاقي الإهمال، وأحياناً التشجيع من قوى محلية، وأخرى دولية، رأت في هذه الأحزاب حليفاً في الصراع مع العدو الشيوعي، واعتبرتها حليفاً لها ضد قوى وطنية وقومية، ويبدو أن هذه القوى لم تتوقع أن تتحوّل هذه الأحزاب الدينية، التي لها أهدافها الخاصة، قوى معادية لطموحاتها.
حركات التحرر العربية الآن تعيش حالة بائسة، ترمي كل مشاكلها وإحباطاتها على الآخرين المتآمرين مع أنه لا يمكن لأي مؤامرة أن تنجح ما لم يكن البيت الداخلي مهترئاً وفاسداً.
لقد بلينا بكسل فكري يصعب الفكاك منه، فالربيع العربي ليس انقلاباً حتى نطلب منه أن يقول لنا من القائد، لأنه حركة لا قائد لها، ولا يقبل بأن يقاد، ويطلبون منه برنامجاً مفصلاً لأهدافه، وهو لا يهتم بذلك في هذه المرحلة.
الربيع العربي ليس ثورة بالمعنى الدارج، هوثورة ثقافة وكرامة، كرامة المواطن وتحريره من ثقافة العبودية وثقافة القطيع الذي يقاد الى المسلخ، ثقافة الحرية،ثقافة المساواة،ثقافة سلمية ترفض العنف بكل أشكاله، تريد أن تغير مسار التاريخ، تاريخ الحروب العبثية المدمرة منذ الخليقة، لأسباب متعددة سواء كانت عنصرية أم طائفية أم أطماعاً اقتصادية، وبعضها طموحات شخصية لقادة مغامرين يبحثون عن العظمة والمجد الزائف.
هذا الوضع المؤلم جرت محاولات عدة للتصدي له، حقق بعضها إنجازات لا بأس بها في أوروبا، ولعل أشهرها الربيع الأوروبي في منتصف القرن التاسع عشر بعد تقديم عشرات الآلاف من الضحايا، فشباب الثورة مستمرون باطاحة كل الأصنام حتى تعم ثقافة الكرامة، وتنتهي مرحلة الذل والعبودية، وعلينا أن نبارك هذا الربيع، ولا نبخل عليه بالدعم، ونفخر به، لأن العالم وقف مذهولاً عندما رأى هذا التحرّك ينتشر انتشار النار في الهشيم ليعم الوطن العربي كله، فسمّوه الربيع العربي، وهذا رد على كل من ادعى موت هذه الامة. إنه فكر متجدد، فكر إنساني ديموقراطي مسالم، يحب الخير للعالم كله، لأنه أدرك أن العالم كله أصبح قرية واحدة بفضل ثورة الاتصالات، التي كسرت كل الحواجز التي تفصل البشر، فكل حدث مهم أصبح يتداول عالمياً ويشاهد حيا في لحظته، كما أن وسائل الاتصال الحديثة جعلت أي وباء في أي بلد في العالم ينتشر بسرعة هائلة، ليعم الكرة الأرضية كلها، فإنفلونزا الخنازير البرازيلية أصبحت وباءً عالمياً خلال أسبوعين، وانهيار سوق العقار الأميركي دمّر اقتصاد العالم كله، وتدمير البيئة سيدمّر العالم كله أيضاً، وتجنّب حروب مصادر مياه الشرب المقبلة حلّها بالبحث العلمي المشترك لتوفيرها للجميع، وكذلك كل ما نعانيه من فقر وجوع وأمراض، كل هذه كوارث عالمية حتمية مالم نتحرر من هذه الثقافة الأنانية المدمرة للجميع.
مواجهة كل هذه المشاكل وحلها لا يمكن أن يتم ما لم نتحرر من ثقافتنا الحالية المدمرة، ووحدها الأجيال الشبابية قادرة على فهم هذا الواقع ومجابهته بثقافة جديدة وأساليب جديدة تجاوزتنا جميعاً.
هذه المشاكل المشتركة كلها جعلتنا نعيش في عالم واحد، وأصبحت الكرة الأرضية وطناً واحداً يحافظ عليه، ليوفّر المعيشة الكريمة للجميع، نابذاً التفرقة، والتعصّب، والعنف. إنه ميثاق جديد، دستور جديد يلبي طموحات كل مكوناته.
ــــــــــــ
زعيم "التيار القومي" في الكويت