الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الفلسطينيون وشبح المكارثيّة السوري

الفلسطينيون وشبح المكارثيّة السوري

20.10.2016
أسامة مصالحة


الحياة
الاربعاء 19/10/2016
في الفترة الأخيرة، بدأ شبح المكارثية يخيّم فوق فلسطين. في الضفة كما غزة. صارت حرية التعبير بذخاً حتى للقلة الضئيلة، ومحرمة بالمطلق على من تبقى. فتعليق صغير، لا يعيره أحد انتباهاً، في فيسبوك، أو انتقاد بسيط عابر وساخر بلا قيمة فعلية، يكلف الفلسطيني وظيفته وقوت أولاده وقد يقوده الى السجن أو المنفى. وعلى خلاف مكارثيات عدة، لا تجد المكارثية الفلسطينية لنفسها ظهيراً شعبياً. ذلك أن الشعب نفسه في عمومه ضحيتها. فالغالبية الساحقة من الضحايا تتكون ممن كان يدير دفة دائرة مهمة أو تقلد منصباً سامياً، ومنهم من كان يُعتبر عضواً أصيلاً في المحفل السياسي والأمني المغلق، ومنهم شخصيات وطنية عامة، وأسرى ووزراء ومن يعادلهم أهمية. وبطبيعة الحال، هناك منهم أساتذة جامعات ومثقفون وسائقو تاكسي وبائعو خضار وشبان في مقتبل العمر. مهمون جداً وهامشيون الى أقصى حد. يصح هذا على الضفة بالقدر نفسه الذي يصح على غزة.
العينة قد تبدو شاملة وعشوائية معاً، فليس هناك كتالوغ يحمل مواصفات مفصلة عمن يمكن تصنيفه عدواً للشعب أو النظام أو الدين. المطرودون أو الساقطون من الرحمة، كما يقول الإنكليز، كثر. وليس هناك ما يوحدهم كفكرة أو انتماء أو أيديولوجيا أو مصلحة أو اهتمام أو مهنة. ربما كانوا حشداً من المصابين بالسأم أو الغثيان، شخصيات خرجت من روايات الفيلسوف الوجودي الشهير سارتر. شخصيات وقفت فوق برميل صدئ في الشارع العمومي وبصقت على كل شيء. قد لا يكون واحدهم غاضباً على نظام سياسي بعينه، وقد يكون غاضباً على نظام الكون.
تدين المكارثية الفلسطينية بوجودها لمركّبين: الثقافة الأبوية الريفية التقليدية، والصراع الداخلي والانقسام. في ما يتعلق بالأول، فالمجتمع الفلسطيني الحالي لم يتطور في شكل طبيعي نحو إنتاج طبقة بورجوازية تحمل مشروعاً ديموقراطياً بالمواصفات الحديثة، ويصعب الحديث عن ثقافة المدينة كصياغة لعلاقة الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقة الفرد بعموم المجتمع. لهذا لا تزال الثقافة الأبوية الريفية تمارس قدراً كبيراً من الهيمنة على المجتمع ومكوناته السياسية.
أما عن المركب الثاني، فالوقائع تذهب الى أن المكارثية تغذت سابقاً على الصراع بين حركتي فتح وحماس، ثم بين كلتا الحركتين وما يسمى تيار دحلان، ثم الصراع بين كل التيارات السابقة وتيارات ومراكز قوى نشأت في طور ثالث على قاعدة الصراع حول خلافة الرئيس.
تتغذى المكارثية اليوم، على حقيقة أن الرئيس قاب قوسين أو أدنى من ترك الرئاسة، فلقد عبر الرجل، في شكل قاطع، لشخصيات نافذة ومقربة، عن رغبته في الاستقالة في أقرب وقت ممكن، الوضع الذي يؤجج أوار معركة دامية بين كل التيارات السابقة ومراكز قوى قديمة وأخرى جديدة ذات طابع أمني. ويبدو أن كل التيارات والمراكز السابقة الذكر معنية بخلط الأوراق وتصفية الحسابات وحرق الشخصيات والتفتيش في ضمائر الناس ومعتقداتهم، بهدف التحضير لمرحلة ما بعد الرئيس عباس والتأسيس على ذلك.
في سورية القديمة، كان الناس يرددون أن لـالحيطان آذاناً، في إشارة الى مناخ الريبة والبارانويا الشعبية العامة التي كان ينشر أجواءها القمع والكبت الأمني والمخابراتي المرعب. لم يكن في وسع الإنسان أن يدخل في مونولوغ سري حتى مع نفسه، وإن فعل وجد نفسه وقد غُيب خلف الشمس.
هذا المناخ الكافكوي يجرد الإنسان من إنسانيته ويسلبه كرامته ويحط من قدره وقيمته ويحطم معنى وجوده ويهوي به الى العدمية.
ولمن لا يعرف معنى العدمية، ما عليه سوى إدارة رأسه ناحية سورية الشام حتى يرى جيوشها تعبث بكل شيء، بدءاً بآثار التاريخ القديم، مروراً بالجغرافيا وليس انتهاءً بالروح.