الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المراوحة السياسية في "جنيف -2" قد تولد "جنيف -3"

المراوحة السياسية في "جنيف -2" قد تولد "جنيف -3"

02.02.2014
سليم نصار


الحياة
السبت 1/2/2014
نهاية عام 1990 - أي بعد مرور أكثر من سنة على توقف الحرب الأهلية اللبنانية - عقدت جريدة "السفير" ندوة صحافية شارك فيها الرئيس سليم الحص والأخضر الابراهيمي.
وبما أن الابراهيمي كان وسيط الدول العربية التي انتدبته لمعالجة المرحلة الأخيرة من الحرب اللبنانية، فقد تحدث بإسهاب عن تجربته الخاصة وجهده الخارق لإرساء دعائم حل يرضي غالبية القوى المتحاربة. واعترف أثناء مراجعة تلك التجربة الصعبة، أنه واجه حالات من اليأس كادت تمنعه من مواصلة المهمة الشاقة. ولكنه وصف الانتكاسات التي مُنيَت بها محاولاته بأنها عثرات حفزته على اكتشاف طرق ديبلوماسية بديلة غير طرق القوة المسلحة.
وعن فن تدوير الزوايا الحادة، قال الابراهيمي إن الاختبارات السابقة علّمته كيف يغربل المواقف المتناقضة ويدفعها باتجاه التسوية المقبولة.
ولم تقتصر تجارب الابراهيمي على التجربة اللبنانية التي ساهمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في حلحلة إشكالاتها الدولية المعقدة. ومع اتساع رقعة الخلافات، تحولت الى همّ عربي موجع تناوبت دول الجامعة على إيجاد مخرج ملائم لتناقضاته.
ويعتبر الأخضر الابراهيمي حياته المهنية عملاً ديبلوماسياً متواصلاً بدأه في اندونيسيا عام 1956 كممثل للثورة الجزائرية. وفي عام 1961 انضم الى وزارة الخارجية كعضو في الحكومة الجزائرية الموقتة. وبعد مرور سنة جرى تعيينه في يوغوسلافيا حيث التقى زوجته ميليسا.
كان والد ميليسا قبطاناً لباخرة تجارية مسجلة في كرواتيا. ولكنه رحل عن بلاده عام 1950 الى ايطاليا حيث عمل قبطاناً لباخرة تملكها عائلة أردنية ثرية. وعندما اندلعت ثورة الجزائر، قرر هذا البحار اليوغوسلافي مساعدة الثوار. لذلك وضع السفينة تحت إمرتهم، واستخدمها في نقل أسلحة من مصر الى الجزائر. ولما توفي بصورة مفاجئة، استمرت زوجته وابنته ميليسا تعيشان في الاسكندرية. ولما علم الرئيس أحمد بن بيلا بوفاة القبطان الذي خدم الجزائر، أوصى السفير الأخضر الابراهيمي، الذي عُيِّن في القاهرة، بأن يولي هذه الأسرة عناية خاصة. وقد لبّى السفير تلك المشيئة على أكمل وجه.
في محاولاته الأخيرة بعد افغانستان ولبنان، جرّب الأخضر الابراهيمي إنهاء مهماته الديبلوماسية بإنقاذ سورية من أزمة عصية تتهدد كيانها ونظامها ووحدتها الجغرافية. ومع أنه سبق له أن خبر دواخل "الجوزة الصلبة"، كما لقبها هنري كيسنجر، إلا أنه تسلح بتأييد 26 دولة كي يستأنف ما عجزت عنه الجامعة العربية.
الوفدان، الحكومي والمعارض، حملا الى "جنيف-2" منطلقات مختلفة، بينها تجاذبات الانقسام حول الأولويات التي تراها دمشق محصورة بـ "الارهاب" وتشعباته. في حين يراها وفد الائتلاف المعارض معنية بتفعيل "جنيف-1"، وتشكيل هيئة انتقالية تضمن رحيل النظام ورموزه البعثيين.
هذا في المضمون. أما من حيث الشكل فقد استخدمت طاولة الحوار في قاعة فندق "انتركونتننتال" الأسلوب الذي اعتمده وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر، أثناء المفاوضات العربية-الاسرائيلية.
وكان بيكر، عقب نجاح مؤتمر مدريد للسلام، يتصور أن الاندفاع الذي أظهرته الوفود سيثمر في داخل القاعات المغلقة، خصوصاً أنه أتبع دعواته بإرسال ورقة تعهدات كانت كافية لإقناع أعضاء الوفود بضرورة المشاركة.
ومنعاً للإحراج، اشترط الوزير بيكر أن يتصدر طاولة النقاش مندوب اميركي حُددت مهمته برعاية الجلسات وضبط إيقاع الحوار. كما اشترط أن توجه اليه كلمات الطرفين، لأن الوفود العربية رفضت التحدث مباشرة الى الفريق الاسرائيلي.
في جلسة الافتتاح، حمل أمين عام الخارجية السفير سهيل شماس، آلة تسجيل صغيرة وضعها أمامه على الطاولة وسط وفد ضم السفراء: سمير مبارك وجهاد مرتضى وجعفر معاوية. وهذا ما فعله وليد المعلم الذي اشترك مع رئيس الوفد السوري، موفق العلاف، في عرض مسألة احتلال الجولان. بينما شدد السفير شماس على ضرورة تنفيذ القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن الدولي. وقد استمرت تلك المسرحية السياسية مدة سنتين تقريباً، ثم انتهت الى الفشل، كما أرادها اسحق شامير أن تنتهي.
والمؤسف أن يُضطر الأخضر الابراهيمي في "جنيف-2" الى تمثيل دور الوسيط الصامت... أو دور ساعي البريد الذي ينقل المناقشات التي توجّه عبره الى الفريق الآخر.
كذلك حاولت المعارضة السورية استغلال حضور الوفد الحكومي كي تنقل اليه - عبر الابراهيمي - سلسلة مطالب انسانية ملحّة أهمها: اولاً - الاتاحة لجميع المنظمات الانسانية الوصول الى مختلف المناطق المتأثرة بالقتال. ثانياً - يجب على الحكومة تأمين عمليات إخلاء الجرحى، وتوفير فرص مغادرة جميع المدنيين الذين يودون ذلك. ثالثاً - ضرورة الاستعداد لتبادل معتقلين في السجون السورية مقابل مخطوفين لدى الجماعات المسلحة.
يؤكد المراسلون المتتبعون لأخبار "جنيف-2" أن مهمة الابراهيمي قد تنتهي تلقائياً في حال توقف الفريقان عن مدّها بشروط البقاء، أو في حال طلبت دمشق من ممثليها الانسحاب من قاعة الاجتماعات. ويرى المراقبون أن مثل هذه التوقعات قد تحدث فجأة لأن بشار الأسد يشعر بأن الظروف الدولية تميل الى مصلحته.
ذلك أن الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الى طهران كانت الدليل على أهمية الصفقة السياسية التي عقدتها واشنطن مع ايران. علماً أن انقره كانت تدعو قبل سنتين الى العمل على إسقاط نظام الأسد وإنشاء نظام بديل. وفي خطاب افتتاح مؤتمر "جنيف-2"، هاجم الوزير وليد المعلم تركيا بقسوة وصنّفها في عداد الدول المتآمرة. ومن هنا بدت زيارة اردوغان كمفاجأة غير متوقعة، خصوصاً بعد إعلان الوزير التركي أحمد داود اوغلو الاتفاق مع نظيره الايراني محمد جواد ظريف على استبعاد الحل العسكري في سورية.
تقول مصادر موثوقة في انقره إن الاتفاق مع طهران عُقِدَ في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وإنما تم تأجيل الاعلان عن ذلك الى ما بعد توقيع الاتفاق بين ايران والدول الكبرى الست في الشأن النووي. والثابت أن تركيا بدأت تكيِّف نفسها مع مكانة ايران الجديدة في المنطقة، ولا سيما بعد إلغاء العقوبات على تصدير الذهب الى ايران. ويتوقع الوزير اوغلو أن يزداد مردود الاتفاق التجاري مع ايران الى 30 بليون دولار سنة 2015.
الأزمة السياسية الأخرى التي انفجرت في اوكرانيا، اعتبرها الرئيس فلاديمير بوتين ضربة موجهة الى جهوده الشخصية، خصوصاً أن "الثورة البرتقالية" عام 2004 جعلت من هذه البلاد الشاسعة ساحة مواجهة بين الشرق والغرب. كما اعتبرتها واشنطن دعامة روسيا الكبرى في حال قرر بوتين إحياء طموحات بطرس الأكبر. وبسبب مخاوفه من انضمام اوكرانيا الى حلف شمال الأطلسي، قرر الرئيس الروسي شراء سندات حكومية بمبلغ 15 بليون دولار. وأعلن رئيس وزراء اوكرانيا نيكولاي أزاروف الذي وقّع الاتفاق، أن هذا الدعم التاريخي يسمح بإنقاذ الاقتصاد الاوكراني من الإفلاس.
بعد مرور شهرين على الإضراب المفتوح في كييف، أجبر المتظاهرون رئيس الوزراء آزاروف على الاستقالة. ومع أن الرئيس بوتين تظاهر باللامبالاة لئلا يفسد مهرجان الرياضة الشتوية في سوتشي، إلا أن الكل في اوكرانيا يعلم بالدور الخفي الذي لعبته الولايات المتحدة. والسبب أنها لا تريد أن يتمدد النفوذ الروسي باتجاه المياه الدافئة، إن كان عبر اوكرانيا أو عبر سورية. وفي هذه الحال، يستفيد الأسد من هذا الخلاف، بحيث يضمن التأييد المطلق لسياسته الداخلية، موظفاً سياسة روسيا الخارجية لتأمين بقائه في الحكم.
يقول أحد أعضاء الوفد السوري المعارض إن تباطؤ الدولة في الاستجابة للمطالب المطروحة - إنسانية أكانت أم لوجستية - هو أمر منطقي ومنتظر من رئيس تهدده المعارضة بتشكيل حكومة انتقالية تحل محله. علماً أن أنصاره يدعون استمرار سيطرتهم على 14 عاصمة للمحافظات الأكثر كثافة سكانية. وفي تقدير الدول الغربية، فإن نظام الأسد لن يسقط إلا في حالتين: الأولى، انفصال ثكنات الجنود السنّة وإحداث شرخ بين القوى المسؤولة عن سيطرة النظام. والثانية، تدخل عسكري خارجي يدمر القوى الجوية للنظام، كما حدث في ليبيا. وهذا أمر لن يتكرر.
خلال ندوته الأخيرة هذا الأسبوع، صارح الأخضر الابراهيمي الاعلاميين بأن الجلسات الأخيرة بين وفدي النظام السوري والائتلاف الوطني لم تسجل التقدم المطلوب. ولكن ذلك لم يمنعه من بث روح التفاؤل، على اعتبار أن مواضيع الارهاب والسلام ستبحث في الاجتماعات المقبلة.
الرئيس الأسد أعلن قبل المؤتمر بأيام قليلة، أن القرار الأهم الذي يمكن أن يخرج به مؤتمر "جنيف-2" هو مكافحة الارهاب في سورية. وأن أي نتيجة سياسية تخرج من دون مكافحة الارهاب ليست لها أي قيمة.
ومن هذه القاعدة انطلق أعضاء الوفد السوري الحكومي، للتحدث عن "الارهاب" كسبب أساسي لمشاركتهم. وقد انضم الى هذا السيناريو الرئيس حسن روحاني الذي طلب من "جنيف-2" التشدد في عملية طرد كامل الارهابيين. بل هذا ما ردده وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي حدد مهمة المؤتمر بـ "ضرورة إنشاء تحالف بين الحكومة والقوى الوطنية السورية لمحاربة الجماعات الارهابية الدخيلة التي تقاطرت من كل أنحاء العالم الى سورية لتنفيذ مخططات شريرة".
ويُفهم من هذا الكلام أن موسكو تدعو الفريقين الى مكافحة الارهاب، وليس الى تحريك عجلة التسوية السياسية بين السوريين. كما تسعى الى تفادي منح مشروعية للمساعي الاميركية لإطاحة نظام الأسد أو لانتخاب منتصر في النزاع الداخلي.
في أيلول (سبتمبر) الماضي، وافقت موسكو على سحب السلاح الكيماوي من الأسد. كل هذا بعدما تأكدت أن الولايات المتحدة عازمة على توجيه ضربة عسكرية موجعة قد تساعد على انهيار النظام.
إدعى الوزير لافروف أكثر من مرة أن سياسة بلاده لا ترمي الى بقاء الأسد في السلطة، بدليل الموافقة على قراري مجلس الأمن 2043 و2118 الداعيين الى مرحلة انتقالية سياسية في سورية. كذلك أيدت بيان جنيف الذي يقضي بموافقة المعارضة على بناء القيادة السورية المقبلة. والتأييد هذا اعتُبِرَ بمثابة موافقة ضمنية على مرحلة انتقالية تستثني الأسد.
يقول خبراء الحروب الأهلية في الأمم المتحدة إن السلام في سورية لن يتحقق إلا إذا وافقت الولايات المتحدة وروسيا على عقد مؤتمر "جنيف-3" وتكون المشاركة فيه مقتصرة على الأطراف الاقليمية المتورطة في النزاع السوري. وهذا يقتضي تذليل خلافات داعمي الحرب بالوكالة وتمويل المتنازعين وتسليحهم. وقد تكون أوجه الشبه متقاربة بين النزاع السوري وديناميته وبين نزاعات الحرب الباردة في انغولا وغواتيمالا.
في حفلة افتتاح "جنيف-2"، حرص أمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون، على منح الأخضر الابراهيمي كامل الصلاحيات بحيث تنجح مهمته كمبعوث خاص. والمؤسف أن المشاركين، من الجهتين، استغلوا المؤتمر لإعلان خلافاتهم العميقة حول كل الأمور المتعلقة بالأزمة. لهذا بدا الابراهيمي كمستمع يومي لمهاترات الفريقين وليس كمنسق لتقريب وجهات النظر بينهما!