الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المرشد الأعلى الروسي

المرشد الأعلى الروسي

19.03.2020
بسام مقداد



المدن
الاربعاء 18/3/2020
يرفض فلاديمير بوتين اتهامه بممارسة "عبادة الفرد" ، ويؤكد الناطق باسمه ديمتري بيسكوف ، أن بوتين لا يعجبه هذا التعبير ، وسبق أن حدد موقفه الرافض ، منذ  زمن بعيد ، لكل تجليات هذه الظاهرة . ويبدو تأكيد بيسكوف هذا مثيراً للسخرية الآن على خلفية العاصفة ،التي أثارها ما جرى في مجلس الدوما الثلاثاء المنصرم في 10 من الشهر الجاري ، حين أقر المجلس "تصفير" ( من الصفر) عدد رئاسات بوتين، ومنحه الحق بالترشح من جديد لمنصب الرئيس . كان مجلس الدوما مجتمعاً في ذلك اليوم لمناقشة اقتراح تقدم به نواب حزب السلطة "روسيا الواحدة"، والمتعلق بضرور إجراء إنتخابات برلمانية مبكرة ، انسجاماً مع التعديلات الدستورية ، التي سبق أن أقرها . وفجأة ، وقفت عضو الحزب ، رائدة الفضاء الأولى في العالم ، فالنتينا تيريشكوفا (83 عاماً) ، واقترحت تصفير عدد رئاسات بوتين ، الذي وصل في هذه الأثناء إلى المجلس ، وأوقف على الفور النقاش حول الإنتخابات المبكرة "لعدم ضرورتها الآن" ، ووافق على اقتراح تيريشكوفا ، شرط عرضه على المحكمة الدستورية ، ومن ثم على "التصويت الشعبي العام" في 22 الشهر القادم ، من دون الإلتفات إلى وباء الكورونا .
ما أن شاع نبأ "التصفير" هذا ، الذي سمي بإسم تيريشكوفا ، حتى انطلقت في الإنترنت الروسي موجة عارمة من الفكاهات والشتائم المقزعة لبوتين ولرائدة الفضاء العجوز ، وانتشر على الفور إقتراح بإعادة إرسال تيريشكوفا إلى الفضاء، على أن تقيم هناك . والروس سخريتهم سوداء ثقيلة الوقع ، على قول الكاتبة الروسية Alla Bossart ، وهم يكثرون من استعمال الشتائم "من الزنار ونازل" ، إذ بوسع الروسي أو الروسية أن يروي واقعة كاملة ، من دون أن يستخدم كلمة واحدة من خارج قاموس شتائمهم. وتروي مراسلة صحيفة سويدية في موسكو ، كما نقلت نوفوستي ، بأن صديقها الروسي استشاط غضباً ما أن علم بنبأ تصفير رئاسات بوتين ، وأخذ يصرخ بالهاتف بكلمات "لا أستطيع نشر كلمة منها" ، وأنهى حديثه بقوله : "هكذا ، ببساطة صفروا عهوده الرئاسية . هم لا يستطيعون أن يُظهروا شيئاً من الفانتازيا ، أن يجدوا طريقة لبقة لتغيير الدستور ... سنبقى مع هذا العجوز الضرّاط حتى العام 2036 !".
وتروي المراسلة السويدية هذه في رسالتها من موسكو ، التي عنونتها "الروس يُنكّتون أكثر عن بوتين في الجحيم" ، بأنها سألت مدرب إبنتها الرياضي عن رأيه بتصفير رئاسات بوتين ، فأجابها بنكتة تقول "دخل رجل على صديقه لاهثاً ، وقال بأن "عصابة اختطفت بوتين ، وتطالب بمبلغ 5 ملايين دولار كفدية ، وإلا سوف يصبون البنزين عليه ويحرقونه ! وها نحن نجمع من كلٍ حسب قدرته . أجابه صديقه : للأسف ، أنا لا أستطيع تقديم أكثر من 5 ليترات بنزين !"
وتقول المراسلة أن صفحتها في وسائط الإنترنت امتلأت في اليوم التالي بالنكات ، التي تتحدث عن عقاب بوتين في الجحيم ، لما اقترفه بحق روسيا . من بين هذه النكات واحدة تقول : "مات بوتين . فإلتقاه المسيح وقال له : سأدعك تدخل الجنة ، لكن عبر المطهر ، حيث ينتظرك هناك شياطين يغتصبونك بعدد المرات ، التي كنت فيها رئيساً لروسيا. فكر بوتين أن 6 مرات إغتصاب مقابل الجنة  ليس بالأمر الكثير . أوصلوه إلى الشياطين ، لكنه فوجىء بوجود تيريشكوفا جالسة هناك . "وهذه ماذا تفعل هنا" – سأل بوتين . "هذه سوف تصفر عدد مرات الإغتصاب" – أجابه الشياطين .
النكات المريرة هذه، التي تعبر عن ما يعانيه الروس المعارضون لانقلاب بوتين على الدستور الروسي ، كما يسميه علماء روسيا ومحاموها وصحافيوها وكتابها وفنانوها ، في الرسالة المفتوحة ، التي وجهوها إلى " مواطنينا ، والنواب على مختلف المستويات ، والسياسيين ، والناشطين الإجتماعيين ، وبالطبع  إلى قضاة المحكمة الدستورية ، الذين حلفوا اليمين على نص الدستور الحالي" . وكان عدد الموقعين على الرسالة قد بلغ 357 شخصاً حتى 16 من الجاري ، حسب موقع "ZNAK" المعارض ، الذي نشر الرسالة مع أسماء الموقعين عليها ، ومن بينهم أكثر من عشرين عضواً مراسلاً في أكاديمية العلم الروسية . واعتبرت الرسالة ، أن روسيا مهددة بأزمة دستورية عميقة ، وانقلاب معاد للدستور مموه بشرعية مزيفة ، واعتبرت أن ذلك سيفضي إلى كارثة  شقاق قومي جديد .
وكان بوتين قد أطلق إنقلابه هذا على الدستور في 15 كانون الثاني/يناير الماضي ، في رسالته السنوية إلى البرلمانيين الروس، وبدأ عمليته الخاصة ثنائية الخطوات ، التي يعتبرها مركز كارنيغي موسكو ، "أكثر عملياته متقنة الحبكة " طيلة عهده في حكم روسيا . وخلال الشهرين المنصرمين غرقت السياسة الروسية في التخمينات والتساؤلات عن هدف التعديلات الدستورية ، وعما سيكون عليه وضع بوتين يعد انتهاء ولايته الحالية العام 2024 : هل يبقى أم يرحل؟ هل ستجري إنتخابات برلمانية مبكرة أم لا؟ هل يتشكل مجلس دولة ويرأسه أم يرأس مجلس الأمن القومي . وأطلقت محاولات تفسير ما يجري سيناريوهات وتوقعات مناقضة لبعضها البعض . وكان بوتين في هذه الأثناء يرسل إشارات ضبابية عن أهمية تبادل السلطة ، في ظل التوقعات ببقائه إلى الأبد ، حسب كارنيغي .
في عملية بوتين الخاصة ثنائية الخطوات أو المراحل ، التي يتحدث عنها كارنيغي ، وضع بوتين نصب عينيه من خلال الخطوة الأولى إكتساب اقصى شرعية ممكنة للتعديلات الدستورية ، من خلال ترك النقاشات حولها تدور عن أي موضوع ، الله ، السيادة ، الأسرة ، سن التقاعد ، مجلس الدولة ، أي موضوع، لكن ليس تفصيل الدستور على مقاسه .
الخطوة الثانية من عملية بوتين الخاصة ، محكمة الحبكة أكثر من كل عملياته طيلة عهوده ، تمثلت في إخفاء فكرة تصفير عدد ولاياته عن النخبة السياسية والمجتمع ، وتركيز الإنتباه على تبدل السلطة والبحث عن وريث له ، مما منح بوتين أفضل الشروط لدفع عملية تجديد الدستور ، ومنح البوتينية طابعاً دستورياً ، وجعلها تبدو غير شخصانية يمكن استمرارها من دون بوتين . ونجح بوتين في كل ذلك ، حسب كارنيغي ، الذي ينقل عن مصدر مقرب من ديوان الرئاسة ، أنه بعد إقرار تصفير عدد ولاياته ، وتصديق المحكمة الدستورية على هذه التعديلات في جلسة إستثنائية عقدتها يومي الأحد والإثنين المنصرمين ، لا أحد يستطيع التكهن بنوايا بوتين الحقيقية .
بعد عملية بوتين هذه في "تأبيد" نفسه ، والتي فاجأت العجوز تيريشكوفا الجميع في الإعلان عنها ، "بطلب من أشخاص طيبين" ، انطلقت حركات الإحتجاج ضدها في العديد من المدن ، ، التي تتوالى منها طلبات سحب صفة "مواطن شرف" من تيريشكوفا ، وتغيير اسماء الشوارع والمؤسسات ، التي سميت باسمها يوماً ما. لكن تيريشكوفا ليست سوى الواجهة ، التي اختارها "أشخاص طيبون" لعملية الإنقلاب على الدستور، الذي ينظم المعارضون في موسكو وسان بطرسبورغ مظاهرات تأبين له ، ويضعون أمام مقر المحكمة الدستورية في موسكو الزهور ترحماً عليه . لكن من السذاجة التعويل على حركة الإحتجاجات هذه ، والمراهنة على قدرتها في التأثير على مسار الإنقلاب الدستوري لبوتين . والجناح الليبرالي من المعارضة ، الذي وقف بحزم ضد دعوة بوتين لتعديل الدستور ، ورفض الإنخراط في موجة النقاشات حولها ، هو أيضاً أضعف من أن يكون له اثر يذكر في المرحلة الراهنة على مسار بوتين  هذا .
لقد نجح بوتين في انتزاع غطاء دستوري ل "تأبيد" حكمه ، وإضفاء شرعية دستورية وديموقراطية ما على البوتينية ، التي أصبحت شبيهة بالخمينية الإيرانية ، التي تتغطى أيضاً بشرعية دستورية وديموقراطية ما، وأصبح بوتين "الأبدي" بعد عملية التصفير ، شبيهاً بالمرشد الإيراني علي خامنئي.