الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المشرق في قلب الخيارات الصعبة

المشرق في قلب الخيارات الصعبة

04.05.2015
غازي دحمان



المستقبل
الاحد 3-5-2015
تقف المنطقة أمام خيارين متناقضين أسست لهما التطورات الأخيرة في أكثر من موقعة وجبهة على طول خط الصدام الملتهب من اليمن إلى سوريا وبينهما العراق، وقد كان للمتغيرات التي حصلت في اليمن ثم توالي التداعيات في جبهات سورية، أثر كبير في الدفع بهذه الخيارات ووضعها موضع التنفيذ وتحويلها تاليا الى سياسات وإجراءات مؤسسة للمرحلة القادمة.
الخيار الأول، وهو الخيار العقلاني الذي يقضي بتوجه الجميع نحو بناء توافق سياسي صعب ولكن ممكن وضروري، على أساسه يجري تفكيك منظومة الثقافة والسلوك التي شكلت الخلفية الحقيقية للاشتباك الدامي، وزوّدته بديناميته القاتلة على مدار السنوات الماضية. أو على الأقل إن لم يكن ممكناً تفكيكها نهائيا عزل تأثيراتها ما أمكن حصرها في أضيق الأمكنة في مرحلة أولى، بما يساهم في تغيير ديناميكية الصراع، على ان يتبع ذلك بناء مؤسسات عمومية تكفل اندماج الجميع في أطر الدولة وإقامة الهياكل الإدارية الفعالة لتدبير شؤون حياتهم، بشرط أن يتم كل ذلك على أسس وطنية ووفق رؤية مستقبلية واضحة.
ولضمان نجاح هذه المهمّة، يستدعي ذلك أن يقوم بها الكوادر المدنية والقانونية والإدارية الاحترافية في هذه المجتمعات لا أن يترك شأنها للقوى الحربية أو ما يدرج على تسميته أمراء الحروب وبصيغة الغالب والمغلوب، أو منطق التنازلات التي تراعي موازين القوى وما وصلت إليه المعارك الاخيرة. لأن هذا النمط التأسيسي الذي جرى تجريبه في العراق وقبلها في لبنان، هو حالة استنفارية تقسيمية احتياطية، تضعها المكونات تحت إبطها بمثابة وثيقة للانفصال أو العودة إلى الحرب في حال تغيرت موازين القوى بينها أو ما لم تتطابق قرارات الدولة الناشئة مع مصالحها وتصوراتها لأوضاعها وأدوارها في قلب هذا الكيان.
هل تطبيق هذا الخيار ممكن، أم أنه ضرب من الخيال ومجرد صيغة إنشائية في زمن تحدّد فيه البندقية ومزاج المكونات مسارات الأمور وتوجهاتها؟ لعل شرعية مثل خيار كهذا وجاذبيته، تكمن في التكاليف الباهظة لبدائله ولأثارها السلبية التي ستنثرها على مدار حياة أجيال كاملة. ذلك أن المنطقة اليوم تقف على شفا المذبحة الكبرى، صحيح أنها كانت في قلب هذا الحدث منذ سنوات والمذبحة حصلت بتنويعات وطرق عديدة، غير أن ما يميز اللحظة، وصولها إلى مرحلة الصدام الكبرى وبدون وكلاء وممثلين أي وصولها إلى مرحلة حرب المكونات بكامل عدتها الاحتياطية بعد استنزاف رصيدها من المحاربين التطوعيين والمتحمسين، أو عدم كفايتهم للمرحلة القادمة الأكثر اشتعالا وضراوة.
الخيار الثاني، هو الخيار الحربي الصريح، والنزول إلى الميدان بكامل العدة والعتاد. وأمام هذا الخيار تكون المرحلة السابقة مجرد تموضعات وحالة لتجهيز المتاريس والخنادق ووضوح الرؤية بدرجة كبيرة وما يتبعها من سقوط للأوهام السابقة، وتلطي كل طرف خلف شعاراته ومبرراته. في هذه الحالة على الجميع اعتمار خوذات القتال وانتظار مهامهم على الجبهات، وإعادة جدولة بنك الأهداف بحيث يشمل هذه المرّة ما تبقى من أهداف جرى استثناؤها تحت أي اعتبار.
خيار الحرب في هذه الحالة، لن يشبه نمط الحروب التي حصلت في لبنان التي بقيت لفترة طويلة منضبطة ضمن قواعد اشتباك أو تفاهمات معينة، بل هو أقرب إلى نمط الحرب العراقية، وستكون تطويراً حقيقياً لمنهجيتها الفوضوية والبشعة. والسبب التقني وراء ذلك، أن الحرب في المنطقة حرقت كل المراحل وتجاوزت كل ممكنات ضبطها ضمن أطر محددة وواضحة، وهي تتجه إلى نمط من حروب الإبادة العلنية.
لكن الخروج من حالة الاستعصاء ومغادرة حافة الهاوية حكماً، لن يمر عبر تسويات شكلية وتوافقات تبقي الوضع على ما هو عليه. ذلك لن يكون سوى جولة تذاكي دبلوماسي في محاولة لرفع المسؤوليات والتهرب من الاستحقاقات. ومثلما على الجميع القبول بالدولة كمرجعية عصرية وملجأ أمان مستقبلي ضامن للجميع كذلك فإن الوصول إلى هذه المرحلة، يستدعي تقديم تنازلات مؤلمة والقبول بالاستحقاقات التي ترتبها عملية الانتقال إلى المرحلة الجديدة، وأهمها العدالة الانتقالية. ولا يتم ذلك بصيغة غالب ومغلوب وإنما كاعتراف بالخطأ الأساسي الذي أوصل الامور إلى هذا الحد، وضمانة بأن الحرب لن تعود وأن الأصل في العلاقة هو المواطنة الحقيقية.
حسناً، هل تملك المنطقة ما يكفي من عوامل اجتماعية وجرأة فكرية للعبور إلى الحالة المطلوبة؟ لم يعد ممكناً الاستمرار ضمن صيغة الحرب والتفاوض وانتظار موازين القوة، هذه اللعبة المقيتة لم تنتج غير استفحال التقيح في الجسد المنهك أصلاً، واستمرار الإقامة فيها يعني ترك الأمور تتشكل وفق هواها. ذلك خيار انتحاري حاول الجميع التلويح به لإخافة بعضهم، لكنهم سقطوا في مترتبات استحقاقاته بعد أن تبين أن الأمر أكبر من كونه مناورة سياسية، بل هو دينامية تستلزم استدامة اشتغالها، نزفاً كبيراً من البشر والحجر.