الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المشروع الروسي الجديد والحنين للشرق الأوسط

المشروع الروسي الجديد والحنين للشرق الأوسط

30.01.2020
إبراهيم نوار



القدس العربي
الاربعاء 29/1/2020
لروسيا حنين لا ينقطع إلى المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى الخليج إلى شرق البحر المتوسط، ففيها السهول الممتدة الغنية بثرواتها، وعلى أطرافها المياه الدافئة، التي تحلم بها، وفيها تعيش شعوب تركت بصماتها التاريخية على ثقافتها ومقوماتها الحضارية. لكن الدولة الروسية الحديثة لم تنجح خلال القرن الأخير في بناء جسور دائمة للتعاون الحضاري مع المنطقة ككل.
وبسبب تطورات الحرب العالمية الأولى وما بعدها، سواء تلك التي وقعت في روسيا نفسها، أو التي وقعت في العالم، فإن علاقات روسيا بالمنطقة تراوحت بين المد والجزر، والتعاون والعداء. ثم تعرضت روسيا السوفيتية لزلزال انهيار الاتحاد السوفييتي، وسقوط الدولة ذات النفوذ الإمبراطوري، الذي كان يمتد من الشرق الأقصى إلى شرق أوروبا، ثم يعبر المحيط ليطل من كوبا على الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة.
الآن وبعد أكثر من ثلاثة عقود على انهيار الاتحاد السوفييتي، تجد روسيا نفسها في وضع أفضل، تستعيد فيه قوتها، وتنهض فيه من انكفاءتها، خطوة بخطوة. وقد سعت أولا إلى توفير سبل الأمان لجبهتها الدفاعية المكشوفة في الحزام المحيط بها، الذي يضم الجمهوريات السوفييتية السابقة، حتى حققت ضربتها الكبرى بضم شبه جزيرة القرم عام 2014، بعد ذلك تحركت قواتها العسكرية، التي تخلصت من عقدة أفغانستان، إلى حيث منطقة الحنين التاريخي التي تشتاق إليها، منطقة الشرق الأوسط، وكانت سوريا بحرا وجوا هي وجهة اندفاع هذه القوات، ففيها الموقع الاستراتيجي، وأمامها تمتد المياه الدافئة، وفوق ذلك فإن لروسيا مع أعداء الأسد، فلول تنظيم "القاعدة" والجماعات المقاتلة سابقا في أفغانستان، ثأرا قديما، يبرر التحالف الوثيق مع بشار الأسد، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط في صيف 2015.
وقد تناول الخبراء والمراقبون خلال العقود الأخيرة دراسة الكثير من الرؤى والمشروعات الخاصة بمستقبل المنطقة العربية، قلب الرجل المريض، الذي كان قبل مئة عام. المنطقة التي تبدو للعالم حاليا موطنا لدول فاشلة، وتوترات سياسية، وصراعات إقليمية. المنطقة التي عادت كما كانت قبل نحو 100 عام فريسة جاهزة لقوى كثيرة تتنافس عليها، بينما هي لا تملك من أمر نفسها إلا القليل. ويبرز من بين الرؤي والمشروعات المطروحة للمنطقة، مشروع أمريكي، وآخر إسرائيلي، وثالث إيراني، ورابع أوروبي، وأخيرا مشروع تركي، لكن أحدا لم يتناول بدقة المشروع الروسي للشرق الأوسط، الذي يقوده فلاديمير بوتين، ويجري تنفيذه على الأرض، أكثر مما يجري الحديث عنه في المنتديات.
ومع اتساع نطاق الاضطرابات في الشرق الاوسط، تحت تأثير ضربات التدخل الأجنبي، ومظاهر فشل الدولة القومية، وصراعات التنظيمات المسلحة غير الحكومية، ضد النظم التقليدية القائمة، وتوتر العلاقات بين معظم دول المنطقة، يصبح من الضروري تأمل استراتيجيات القوى النشيطة في الشرق الأوسط، إقليمية كانت أم دولية. ويعتبر المشروع الروسي للشرق الاوسط، واحدا من أهم المشاريع التي يجب دراستها، نظرا لأهمية الدور التاريخي لروسيا في المنطقة، وموقعها على خريطة القوة العالمية، وتزايد تمركزها العسكري في شرق البحر المتوسط.
 
بعد أكثر من ثلاثة عقود على انهيار الاتحاد السوفييتي، تجد روسيا نفسها في وضع أفضل، تستعيد قوتها، وتنهض من انكفاءتها، خطوة بخطوة
 
تختلف محركات السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط في الوقت الحالي عما كانت عليه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. ومن الثابت أن الأيديولوجية كانت المحرك الأساسي لهذه السياسة حتى نهاية القرن العشرين. وقد تجلى تأثير المحرك الأيديولوجي منذ انسحاب روسيا من الحرب العالمية الأولى، ورفضها الاشتراك في ترتيبات سايكس- بيكو، بل نشر وثائق هذه الترتيبات، وهو ما أفقدها فرصة الفوز بحصة من أملاك الرجل المريض (الإمبراطورية العثمانية). وقد استمرت سيطرة المحرك الأيديولوجي على السياسة الخارجية الروسية حتى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، وانفجار الخلاف الروسي – الصيني.
وخلال الفترة منذ نهاية الحرب الأولى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، تمت عملية إعادة توزيع مراكز القوة والنفوذ في العالم، على أساس أيديولوجي. ومع صعود القوة الأمريكية بعد الحرب الثانية، وتراجع نفوذ القوى الاستعمارية القديمة، خاضت روسيا (التي كانت تقود الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي) حربا باردة شرسة، اعتقد الروس أنهم سيفوزون فيها، طبقا لتصورات خروتشوف عن "المباراة السلمية" بين الاشتراكية والرأسمالية. موسكو خاضت الحرب الباردة، معتمدة على جناحين أحدهما عسكري هو حلف وارسو، والثاني اقتصادي هو منظمة التعاون الاقتصادي المتبادل (كوميكون). وقد استمرت موسكو (بقيادة الحزب الشيوعي) على اعتقادها بحتمية الانتصار حتى سقط المعسكر الاشتراكي كله، وتفككت وحداته السياسية، بدون حرب أو طلقة رصاص واحدة من المعسكر المناوئ. سباق التسلح وحرب أفغانستان وبيروقراطية الحزب والدولة، كانت أهم العوامل التي استنزفت طاقة الثورة والدولة في روسيا السوفييتية، فخارت قواها، وسقط سور برلين عام 1989 أمام أعينها وهي لا تستطيع ردا.
وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، بدأت الإدارة السياسية في موسكو تدرك حقائق العالم الجديد بعد نهاية الحرب الباردة. وتضمنت التحولات السياسية السريعة التي حدثت في دول الاتحاد السوفييتي السابقة، تخليها عن النظام الاشتراكي، واستقلالها عن النفوذ الروسي، ودخول بعضها في ترتيبات شراكة، أو تسهيلات دفاعية مع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي (كازاخستان، قيرغستان، طاجيكستان، تركمانستان، واوزبكستان). وعلى الرغم من ذلك، فإن روسيا حرصت على استمرار العلاقات مع هذه الدول على أساس المصلحة الوطنية. منذ ذلك الوقت سقط المحرك الأيديولوجي. وفي سياق هذا التحول، تغيرت النظرة إلى الشرق الأوسط ، التي كانت، إلى حد كبير، أسيرة لقوة الدوافع الأيديولوجية، على الرغم من بعض الاعتدال الذي ظهر في علاقات روسيا بنظم سياسية عربية، كانت تتبع سياسة العداء للشيوعية كما كان الحال بالنسبة لمصر وسوريا والعراق.
يعتبر فلاديمير بوتين، مهندس السياسة الروسية ومرجعيتها الأخيرة منذ بداية القرن الواحد والعشرين. ومع ان بوتين صعد إلى السلطة وسط حالة من التفكك والاضطرابات الشديدة، إلا أنه استطاع منذ فترة رئاسته الرسمية الأولى (تولى الرئاسة مؤقتا في الفترة الانتقالية التالية للرئيس بوريس يلتسين)، أن يضع الأسس الكفيلة بتحقيق استقرار الإدارة، واستعادة قوة الدولة، والانتقال من استراتيجية للدفاع إلى استراتيجية للهجوم، ولم يعبأ كثيرا بردود الفعل الأوروبية والأمريكية ذات الطابع الانتقامي، التي تضمنت عقوبات سياسية واقتصادية وعسكرية. وقد تصاعدت وتيرة هذه العقوبات وزادت حدتها بعد أن تدخلت روسيا مباشرة في الحرب الأوكرانية، وقررت ضم شبه جزيرة القرم، على الرغم من احتجاجات دول حلف الأطلسي.
وانطلقت السياسة الخارجية الروسية في العالم، مستندة إلى قاعدة المحافظة على المصالح القومية والدفاع عنها بشراسة في اي مكان في العالم، مع استخدام كل مقومات القوة لتحقيق ذلك، من الحرب إلى دبلوماسية النفط والغاز والسلاح. وتعتبر منطقة الشرق الأوسط، أهم مناطق العالم التي مارست فيها روسيا سياستها الخارجية المستندة إلى قاعدة تغليب المصلحة القومية. واستطاعت روسيا تحت قيادة بوتين أن تعيد اكتشاف الشرق الأوسط، خصوصا منطقة شرق البحر المتوسط، التي تتجلى فيها هوية المنطقة، من حيث تنوعها بين أجناس وديانات وطوائف وثقافات مختلفة حتى داخل البلد الواحد. وبعد تنحية المحرك الايديولوجي، أصبح بإمكان موسكو أن تتعامل مع الرياض ومع دول الخليج وغيرها بدون تعقيدات، على أساس قاعدة المصالح والمنافع المتبادلة في سوقي النفط والسلاح. وخلال سنوات قليلة نسجت روسيا علاقات عمل قوية مع أطراف في المنطقة بصرف النظر عن العداوات أو الخلافات بينها، كما هو الحال في علاقاتها مع مصر وتركيا. كما استطاعت ان تجمع أطرافا لم تكن لتجتمع بدون حنكة بوتين السياسية، مثلما هو الحال مع إيران وتركيا. ووسط الصراعات الدامية في سوريا وقفت روسيا مع الأسد بدون تردد، ونجحت مقترحاتها بإقامة "مناطق خفض التوتر" في إقناع المقاتلين الذين يحاربون الأسد بالتقهقر إليها، والانسحاب من خطوط المواجهة.
وتتمسك السياسة الخارجية الروسية في المنطقة العربية والشرق الأوسط، بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ولذلك فإن حكومات دول المنطقة لا تشعر بالقلق من النفوذ الروسي المتنامي. كما إنها سياسة بعيدة تماما عن معايير حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. ومع ذلك فما تزال روسيا حتى الآن تعلن تمسكها بحل الدولتين للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. ولهذا فقد حرص بوتين في زيارته الأخيرة للقدس على أن يتوجه إلى رام الله لزيارة رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس. ومع زيادة حدة الاستقطاب في المنطقة بين استراتيجيات مختلفة، ستواجه روسيا خيارات صعبة في سياستها الشرق أوسطية. ومع أن بوتين نجح حتى الآن في ألا تنقطع (شعرة معاوية) بينه وبين معظم قيادات المنطقة، فإن السنوات القليلة المقبلة ستكشف إلى أي مدى تستطيع روسيا المحافظة على موقعها الجديد على رأس سلسلة القيادة في الشرق الأوسط.