الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المهاجرون.. ورقة لعب وتصعيد!

المهاجرون.. ورقة لعب وتصعيد!

30.09.2015
عبد الوهاب بدرخان



الاتحاد
الثلاثاء 29/9/2015
يتبيّن مع الوقت أن مسألة المهاجرين إلى أوروبا ليست فقط نتاجاً طبيعياً لتطورات أزمتي سوريا والعراق، بل إنها في جانب مهم منها نتيجة لسياق سياسي. ثمة أطراف أربعة استغلت تدفق المهاجرين والارتباك في قبولهم أو رفضهم لتستخلص اتهامات لأوروبا في تعاملها مع الأزمتين، إذ لم تكن مجرّد مصادفة أن تلتقي مواقف روسيا وإيران والنظام السوري وتركيا على لوم الأوروبيين وتقريعهم لأنهم أخفقوا في تبني "السياسات المناسبة". وبالطبع كانت هناك فوارق في انتقاد الأوروبيين: فدمشق لم تخفِ شماتتها منهم لأنهم وقفوا مع انتفاضة الشعب السوري ضد النظام، وأنقرة تلومهم على تردّدهم في دعم دورها، ولطهران مآخذ كثيرة تتغطّى بالتركيز على ظاهرة الإرهاب، وموسكو تعتبر أن اللاجئين يهربون من بطش تنظيم "داعش" وليس من بطش النظام السوري.
وفي المقلب الآخر للمسألة توجد شبكات التهريب، وهي حلقة أساسية في التعرّف إلى طبيعة المشكلة. فلا أحد يتصوّر مزاولتها لعملها بغفلة عن أي سلطة، وعلى افتراض أن الحوادث الأولى كانت مفاجئة فعلاً لأن الزوارق انطلقت من نقاط بعيدة عن المراقبة الاعتيادية إلا أن النشاط اليومي الدؤوب لعمليات التهريب صار يشي بأنها مسموحٌ بها إن لم تكن مطلوبة. وعندما يتكشّف أن التهريب لا يعوّل على أفراد بل على شبكات تحوّلت إلى ما يشبه شركات لها عناوين يقصدها "الزبائن" أو موفدون عنهم، ولها عملاء منتشرون في مخيمات اللجوء كما في الداخل السوري والعراقي، لا تعود هناك مبالغة في القول إن "السلطات" تغضّ النظر أو تدفع النازحين والمهجّرين إلى طرق أبواب أوروبا عنوةً، فضلاً عن أن مستفيدين من السلطة وجدوا مجالاً للتربّح على حساب المنكوبين.
كل ذلك لا ينفي أن هؤلاء النازحين، أو حتى الذين لم ينزحوا بعد، بلغوا فعلاً حدّ اليأس من تغيّر الأحوال، فالصراعات الدموية تقترب من سنتها السادسة في سوريا، ومضت عليها ثلاثة عشر عاماً في العراق، ولا تشعرهم بأي انفراج في الأفق، كما أن استقراءهم للأرض والواقع ينبئهم بأن الحياة الطبيعية باتت بعيدة حتى لو كان هناك حلٌّ سياسي- عسكري غداً صباحاً. وقد ساهمت شهادات اللاجئين الواصلين إلى "برّ الأمان" الأوروبي في استكشاف سلسلة التواصل بين المهرّبين واللاجئين، ففي سوريا يقوم قريبون من النظام بتسهيل انتقال الراغبين في الهجرة إلى النقطة الأولى في الرحلة الطويلة التي يتداولهم فيها أشخاص في مناطق المعارضة ثم داخل تركيا، حيث يصل أيضاً آخرون من لبنان ومصر، ليتوجّه الجميع إلى "موانئ" مصطنعة اختيرت مواقعها في أقرب نقطة تصل بين اليابستين التركية واليونانية.
كان واضحاً أن هناك من يريد أن يقول للأوروبيين إنهم تلكّأوا سياسياً وأمنياً فوصلت إليهم أفواج أولى من اللاجئين، لكنهم لم يفهموا الرسالة، ثم وصلت إليهم "الذئاب المنفردة" التي قادتهم إلى خلايا نائمة وشبكات تجنيد، ولم يفهموا التحذير، إذن فليأخذوا حصتهم من اللاجئين لعلهم يفهمون أخيراً وهم في أوج صراعات داخلية حول مسألة الهجرة غير الشرعية التي رضخوا لـ"تشريعها" بتوزيع حصص اللجوء فيما بينهم. ولدى الأطراف الأربعة المذكورة دوافع متشابهة ومتفاوتة في آن: هناك ثأرية بيّنة لدى دمشق وطهران، وثأرية مختلفة لدى أنقرة التي وجدت أن "أطلسيتها" لم تفدها في تعاطيها مع أزمة حادة على حدودها، وثأرية روسية ترمي إلى الضغط على أوروبا في الشأن السوري كمدخل إلى شؤون أوسع تتعلق بالاستراتيجية الدفاعية للقارة الأوروبية. ويبدو أن الضغوط بدأت تؤتي ثمارها.
يتظاهر الأوروبيون حالياً بأن رضوخهم للأمر الواقع الذي فرضه اللاجئون ليس فقط من قبيل الواجب الإنساني بل كسياسة مشتركة ينفّذونها بوعي وأريحية، لكنهم مدركون أنها ستكلفهم كثيراً على المستوى السياسي الداخلي. وها هم يصطفّون ليقولوا، بعد الأميركيين، إنه لا مانع من عملية انتقالية في سوريا بمشاركة رئيس النظام الذي كانوا طالبوا مراراً بتنحّيه، إلا أنهم يتساءلون في الوقت نفسه عما يضمن أن يتعاون النظام مع هذا "الانتقال" المزمع، وما علاقة ذلك بموجات الهجرة إلى بلدانهم، وهل كان عليهم أن يساندوا النظام السوري في قتله أبناء شعبه ودفعهم إلى خارج الحدود، وهل كانوا سيمنعون ظهور "داعش" وانتشاره لو دعموا سياسة نوري المالكي، وهل كان عليهم أن يزجّوا بجنودهم في حروب أهلية لتزكية خيارات هذا الطرف أو ذاك؟