الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الناتو.. توسعات جغرافية وانزلاقات استراتيجية

الناتو.. توسعات جغرافية وانزلاقات استراتيجية

24.12.2015
باسكال بونيفاس



الاتحاد
الاربعاء 23/12/2015
وافقت بلدان "الناتو" مؤخراً على ضم "الجبل الأسود" إليها على الرغم من احتجاج روسيا؛ حيث ترى موسكو في عمليات التوسع المتتالية للحلف نقضاً لميثاق شرف أُبرم بين الجانبين لحظة إعادة توحيد ألمانيا ويقضي بألا يكون ثمة أي توسيع للناتو. فالروس يرون في تحركات الحلف رغبة في محاصرتهم والإبقاء على مناخ الحرب الباردة، هذا في حين ترد بلدان الناتو على ذلك بالقول: إن الحلف الأطلسي هو عبارة عن منظمة لبلدان ديمقراطية ليست لديها نوايا عدائية أو هجومية وبأن تخوفات موسكو لا أساس لها.
ومما لا شك فيه أن روسيا تبالغ في تصوير الخطر الذي يمثله انضمام "الجبل الأسود" إلى "الناتو" بالنسبة لأمنها، ومما لا شك فيه أيضاً أنه لم يكن ثمة أي التزام رسمي من قبل بلدان "الناتو" بعدم توسيع الحلف بعد إعادة توحيد ألمانيا. بيد أن ثمة عمليات توسيع متتالية تمنح حججاً وذخيرة لأولئك الذين يرون في العالم الغربي، خاصة داخل روسيا، منظمة تسعى للحد من قوة روسيا والإبقاء عليها في وضع المغلوب في الحرب الباردة، وليس الشريك في نظام عالمي جديد.
وفضلاً عن ذلك، فإن هذا التوسيع يأتي في توقيت غير مناسب تماماً، إذ يتزامن مع الجهود التي يبذلها الغرب من أجل إشراك روسيا أكثر في محاربة تنظيم "داعش" – جهود تصطدم بصعوبات كثيرة أصلاً نظراً لدعم موسكو لبشار الأسد. ولا شك أن البعث بإشارة سيُنظر إليها من قبل موسكو – عن حق أو خطأ – على أنها سلبية ليس بالأمر الحصيف.
البعض قد يرى في قرار "الناتو" هذا رغبةً في التوسع واكتساب قوة غير محدودة. وقد يرى فيه البعض أيضاً حركة طبيعية مرتبطة ببنية المنظمة وطبيعتها ولكن خارج إطار تفكير استراتيجي عالمي. ذلك أن "الناتو"، باعتباره منظمة، مطالَب بتبرير وجوده بعد اختفاء التهديد الذي كان سبب تأسيسه. فما هي الشرعية التي لديه اليوم، في عالم ما بعد مرحلة الحرب الباردة؟ فتاريخياً، تختفي التحالفات العسكرية بعد اختفاء التهديدات التي كانت سبباً في ولادتها. ولكن لاعتبارات داخلية، يتعين على "الناتو" أن يضاعف أنشطته، ويبحث عن مهام جديدة لنفسه، ويوسّع مجاله من أجل البقاء والاستمرار. يبدو ذلك أشبه بنهج منظمة غير واعية، على غرار نهج المسؤولين السوفييت عندما قاموا بتحديث صواريخ "إس. إس3" و"إس إس 4"من أجل تعزيزها بصواريخ "إس إس 20" الأكثر تطوراً خلال عقد السبعينيات، دون أن يدركوا أنهم، بعملهم ذاك، إنما أثاروا رد فعل قوي من قبل الغربيين أفضى في النهاية إلى أزمة الصواريخ في أوروبا.
بعد 1990، كان "الناتو" في وضع يشبه وضع أشبه بمصنع يواجه منتوجُه صعوبات جمة في السوق، ويواجه اختياراً صعباً: إغلاق المصنع، أو تنويع الإنتاج، أو السعي لربح حصص في السوق على حساب المنافس. ولأن منتوج "الدفاع عن أراضي البلدان الأعضاء" كان أقل ضرورة، اختار "الناتو" تنويع إنتاجه (التوسيع الجغرافي، مهمات "خارج المنطقة")، والسعي لاكتساب حصص سوقية في مجال الأمن، (فـ"اتحاد أوروبا الغربية" اختفى، و"الأمم المتحدة" لم تكن في مستوى آمال 1990، و"منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" لم تحقق نجاحاً).
إن "الناتو" حلف يحركّه منطق النمو البيروقراطي، ذلك أن مسؤوليه، أولئك الذين يعملون فيه، عليهم دائماً أن يجدوا مهاماً جديدة لتبرير وجودهم واكتساب شرعية عبر زيادة أنشطته وتوسيع مجاله الجغرافي، غير أن هذه السياسة من دون نهاية في الحقيقة، لأنها تفضي إلى تحقيق ما يقول إنه يسعى لمحاربته. وأمام عمليات التوسيع المتعددة هذه، لا يمكن أن يكون موقف روسيا سوى التوتر والتشنج ضد الغربيين.
ويمكن أن نشير هنا أيضاً إلى نظام الدفاع الصاروخي السابق والخطير. فالغربيون سيقولون إنه من الضروري وضع وسائل حماية حقيقة تحسباً لظهور أي تهديد روسي. والحال أنه خارج أوروبا، يُنظر إلى "الناتو" في الكثير من الأحيان على أنه جيش صدام الحضارات الغربي. إنها دائرة مفرغة كاملة! فـ"الناتو" من جهة ينتهج سياسة مرتجلة وقصيرة النظر من دون تخطيط استراتيجي، ولكن من جهة أخرى يتبع سياسة واعية تستمد شرعيتها من ذكرى الحرب الباردة. وهكذا، فإن مسؤولي "الناتو" مطالَبون دائماً بإيجاد دور لهم من أجل البقاء والاستمرار.