الرئيسة \  واحة اللقاء  \  النظام السوري يفاوض نفسه

النظام السوري يفاوض نفسه

23.12.2015
فاطمة ياسين



العربي الجديد
الثلاثاء 22/12/2015
ستة قرارات صدرت، حتى الآن، عن مجلس الأمن بخصوص سورية، خمسة تحوم حول المشكلة الرئيسية، ولا تساهم فعلياً في حلها، لذلك صدر القرار السادس.
سرعان ما انتهى العمر الافتراضي لتلك القرارات، وتبخّرت جميعها، وتحولت إلى أرقامٍ أضيفت إلى أرشيف مجلس الأمن. وجاء القرار الجديد بعد مخاضٍ طويل، وجلسات ماراثونية بين وزراء خارجية الدول المعنية، وخصوصاً روسيا وأميركا.
عندما يتعلق الأمر بالدول الكبرى، التي "تتمرّغ" بجنة الفيتو، فإن أي اتفاقٍ لا يأتي كاملاً ناجزاً، بل يأخذ بالاعتبار "خواطر" دول كثيرة، ويضع في حسابه الوضع الدولي والإقليمي ومزاج رؤساء الدول، ثم يأتي القرار على هيئة "جوائز" ترضية تحمل العنوان العريض للجائزة، لكنها خالية من المضمون المادي. وهكذا جاء هذا القرارُ المعبأ بآمالٍ مذهّبة، وبخطة "محكمة" للخروج من المأزق السوري، باتجاه مشروع دولة حديثة حضارية، وذلك في غضون عامين اثنين.
اعتمد القرار على لغة متفائلة، وعدَّد كل الاتفاقات السابقة؛ المفيدة منها والضارة، من دون إغفال التشديد على أن العملية كلها يجب أن تكون بقيادة سورية. متجاوزاً بذلك ما يقارب خمسة أعوام من الحرب، ومعتبراً أن الأمر سيحل بمجرد "تبويس الشوارب".
يفرد النظام "بضاعته" التي لا يملك غيرها منذ خمسين سنة، وهي أجهزة الأمن، والسجون الصحراوية، والاستفتاءات الجماهيرية التي تأخذ شكل المبايعة الجماعية العمياء، وهو لم يحد عنها حتى اللحظة، بل ويعتبرها الروح الخلاقة التي سيحملها معه إلى طاولة المفاوضات، إنْ جرت، ما يوحي بأنه سيتعامل مع أعضاء الوفد المعارض بمنطق غرف التحقيق! يمكن التأكد من ذلك في مشاهدة ظهور بشار الأسد على الإعلام، وسماع لغته المبهمة عن المفاوضات، وكيف (يدحش) كلمة "إرهاب" في كل جملة، الأمر الذي يعني أن النظام بعيد، بمسافةٍ كافيةٍ عن العناوين الرئيسية والكامنة في قرار مجلس الأمن التي تعتبر أن هناك "نضوجاً" حصل في أجهزة النظام الرئيسية، حتى يُقبِل على المفاوضات بروح وطنية، ويتعامل مع الوفد المقابل بوصفه نداً يعمل معه لمصلحة الوطن، هذه الخاصية الوطنية التي يعتبرها النظام حكراً عليه، ولا يقبل وجودها عند كائنٍ غيره.
أعضاء الوفد المفاوض، وفيهم مسؤولون في النظام انشقوا في ظروف مختلفة، ورجال أعمال ناجحون في دول المهجر، وبعضهم معارضون عتاة خبروا سجون النظام، وتعاملوا عن قرب مع مشرفي التعذيب في أقبية الأمن، وليس متوقعاً من هؤلاء أن يتخلوا دقيقة عن المطالبة بخروج رئيس النظام من اللحظة الأولى، وليس مستبعداً أن تحصل انسحابات من الوفد، بعد أول لحظة من المفاوضات "إن حصلت"! هنا، أيضاً، يحصل عدم استيعاب كامل لمضامين القرار الذي يفترض أن المعارضة قبلت بوجود النظام، وهي تفاوضه، لتقنعه بأن يتغير لصالحها، ويتخلى عن بعض كراسيه ومناطق احتكاره لأجل عينيها، من خلال تشكيل هيئة مشتركة، تشرف على وضع دستور جديد، وتخلق أجواء ديمقراطية تعد لانتخابات نزيهة.
لا يستوعب القرار المصاعبَ النفسية للنظام، ولا يفهم التركيبة العاطفية للمعارضة، لكنه يَرسم، بمشيئةٍ تصالحيةٍ بين الدول الكبرى، خارطة تنتهي بعد سنتين، يريد أن يطوي، بها، خمسَ سنوات عجافاً من الحرب وعشرات السنوات الأخرى من التضوّر، معتبراً أن مجرد تلاقي الدول الكبرى عند نقطة محددة كاف ليُقلِع الديكتاتور عن سلوكه، ويخلع جيناته كما يُخلع المعطف، وكافٍ لأفراد الوفد المفاوض، مهما كانت رتبتهم، أن يتحرّروا من الإرث الأخلاقي والعاطفي الذي تحمله سنوات الجمر الماضية التي أثرت فيهم عميقاً، وجعلتهم لا يقبلون إلا أن يفاوضوا نظاماً مطأطئَ الرأس، نادماً، أفرادُه مستعدون للتخلي عن كراسيهم والذهاب إلى السجن، بكامل إرادتهم، أما النظام فما زال لا يرغب، تحت أي ظرف أو قرار دولي، إلا بالتفاوض مع نفسه.
ولعل الوصول إلى حالة تفاوض النظام مع نفسه تحتاج إلى قرار أممي آخر.