الرئيسة \  واحة اللقاء  \  النظام السوري يفقد تدمر ولا يخسر رهائن سجنها

النظام السوري يفقد تدمر ولا يخسر رهائن سجنها

26.05.2015
عبدالوهاب بدرخان



العرب
الاثنين 25/5/2015
النظام السوري يفقد تدمر ولا يخسر رهائن سجنهاالنظام السوري يفقد تدمر ولا يخسر رهائن سجنها
لم يحصل تضارب في الأنباء كالذي شهدناه بشأن تدمر وسجناء معتقلها سيئ السيط، بعد سقوط المدينة في أيدي تنظيم "الدولة الإسلامية" المعروف باسم "داعش". توزّع الاهتمام بين تسليط الضوء على هزيمة أخرى يتعرّض لها النظام السوري في سلسلة مستمرّة، وحصيلة القتلى من الجانبين ومن المدنيين الذين بادر التنظيم إلى ذبحهم من قبيل الإعلان عن وجوده، أو "التوقيع" على انتصاره، كما يفعل في أي موقع يستولي عليه. وفي الخارج ذهب جلّ الاهتمام إلى مصير الآثار القيّمة في تدمر، وهي بلا شك من أكبر الشواهد على الحضارة الرومانية، إحدى أقدم الحضارات الإنسانية التي كانت ثم بادت.
في غضون أسبوع غيّر تنظيم "داعش" خريطة انتشاره، محاولاً تعويض خسارته ديالي وصلاح الدين في العراق بالسيطرة على الرمادي، وهزيمته في عين العرب/ كوباني في سوريا بالتوسع جنوبي الرقّة وصولاً إلى تدمر. وبدا أنه اعتمد في الموقعين تكتيكات كرٍّ وفرّ، ما أوحى للمحللين بأنه ضعف عما كان عليه قبل عام، بدليل أنه بدأ بهجمات ولم يستكملها، بل أقدم على الانسحاب... ثم أُعلن - فجأةً! - في يومين متتاليين أن المدينتين سقطتا، وتبيّن أن النظام السوري والحكومة العراقية مارستا التضليل الإعلامي إلى أن تولّى "داعش" نفسه كشف الحقيقة. كانت حكومة بغداد تحاول تجنب اتهامها بالفشل كالحكومة التي سبقتها، فيما أراد نظام دمشق الحفاظ على وهم أنه الوحيد المؤهل للاعتماد عليه من جانب "التحالف الدولي" لمحاربة "داعش". لكن الولايات المتحدة، التي تقود هذا "التحالف"، وجدت مصلحة في التضليل، آملة بتطوّر ميداني سريع في الرمادي، إلا أن الوقائع اضطرّتها للاعتراف بأنها في صدد "مراجعة" استراتيجيتها لل "الحرب على داعش".
كان التفسير الذي برر الهلع على الآثار مبنياً على مشاهد تحطيم قطع أكثر قدماً في الموصل ونمرود والحضر، أي أن التطوّرات الميدانية لم تعد مستغربة في حدّ ذاتها، لذلك جرى التركيز على الخسائر الأبعد مدى والأكثر عمقاً و"إيلاماً" بالمعنى الإنساني - الحضاري. وهذا صحيح بمنظار الحرص على تراث الثقافة العالمية، إلا أنه الآن في قاع هموم الناس المكتوين بنار الحروب الراهنة. فهؤلاء يرتجون أن يهتم العالم بإنهاء مآسيهم ليتمكّنوا من المساهمة في الحفاظ على التراث، كما فعلوا على مرّ مئات السنين. وإذا كان النظام السوري حرص على "طمأنة" العالم إلى أنه نقل الآثار إلى مكان آمن، فإن هذا الإعلان مثيرٌ أيضاً للقلق والشكوك، فمن برهن أنه لا يؤتمن على بلد، ولا على بشر، لا يمكن أن يؤتمن على حجر. فجماعات النظامين السوري والعراقي، كما العصابات المحلية المدوّلة، ضالعة في بيع الآثار وتحويلها أرقاماً في حساباتها البنكية.
بالنسبة إلى السوريين كانت تدمر "ساقطة" في أيدي النظام منذ عقود، تحديداً منذ قرن اسمها التاريخي العظيم بواحد من أبشع السجون في العالم وبواحدة من أكثر مجازر السجناء سوءاً. لذلك فإن سيطرة "داعش" هي استمرار ل "السقوط" وانتقال من يد قذرة إلى يد قذرة أخرى. وأكثر ما جرى تداوله أنه "لم يُعرف بالتحديد مصير السجناء"، لكن الأرجح أن قوات النظام نقلتهم إلى "القبر الكبير" إلى قبر كبير آخر. فقدت السيطرة على المكان ولم تشأ فقد السيطرة على سجناء، بعضهم موجود هناك منذ خمسة وثلاثين عاماً. أثبت النظام أن لا حياة له من دون رهائنه وقتلاه، ولم يهن عليه أن يحرم جلاديه امتياز التحكّم بحياة بضعة آلاف من البشر، أو أن يُفسد على "شبّيحته" متعتهم اليومية بتعذيب أسراهم. لم تعش طويلاً تلك الأخبار الأولية عن تحرير "داعش" للسجناء، وإذا صحّ أنه استخدم صوراً قديمة لنزلاء سجن أبوغريب العراقي على أنهم معتقلون محرّرون من سجن تدمر، فلا تفسير لذلك سوى أنه وجد السجن خالياً وأنه خسر أيضاً امتياز تحرير النزلاء. لكن من يضمن أنه لن يستخدم المنشأة كسجن أيضاً، فهي لا تصلح إلا لوظيفة دنيئة كهذه.
كثيرون داخل سوريا وخارجها التقطوا "البشائر" الكاذبة وهللوا لسقوط سجن تدمر - "باستيل الأسد"، أو لتفجّر "القوقعة" كما سمّاه مصطفى خليفة معنوناً كتاباً عن تجربته يترك بصمته في وجدان كل من قرأه. كل من له أب أو ولد أو أخ في ذلك المكان كان مستعداً للامتنان ل "داعش" لو صدقت الإشاعات التي أطلقها عن تحرير السجناء. لكن الفرحة ظلّت سراباً. غير أن الحدث كان مناسبة لإثارة أسئلة قديمة جديدة عن لغز لم يحلّ بعد وهو "كيف يُعقل أن يوضع هذا السجن الحقير في هذا المكان العظيم؟" كما تساءل ياسين الحاج صالح بعد ستة عشر عاماً أمضاها في ذلك السجن وبعد مذكّرات تأملية عن تجربته نشرها في "بالخلاص يا شباب". كان بعض "الثقافة" الرسمية للنظام جعل من تدمر وملكتها زنوبيا رمزاً لأفضل ما ميّز التاريخ الإنساني من مقاومة للغزاة توقاً إلى الحرية والاستقلال، لكنه لم يفطن إلى أنه ربط اسمها منذ ثمانينات القرن الماضي بذاك السجن الذي شهد أكثر الممارسات تحقيراً للإنسان.