الرئيسة \  واحة اللقاء  \  النظام السياسي العربي.. دعوةٌ للواقعية

النظام السياسي العربي.. دعوةٌ للواقعية

19.10.2015
د. وائل مرزا




الشرق القطرية
الاحد 18/10/2015
حرصاً على وطنٍ عربي قَدَرهُ وحدةُ المصير. وحرصاً على مكوناته التي يتأثر أحدُها بالآخر، بِحُكمِ التاريخ والجغرافيا، والثقافة واللغة والهوية، والتركيبة السكانية، والتحديات المشتركة، وألف عاملٍ وعاملٍ آخر. وحرصاً على استقرارٍ تُهدده الفوضى، وعلى استمرارٍ لا يتحقق بإنكار الحقائق وتجاهلها، وعلى بناءٍ تعب البعض، على الأقل، في إقامته وتطويره.
حرصاً على كل ذلك، آن الأوان لأطراف النظام السياسي العربي أن تكون واقعية. آن لها أن تدرك أن العالم من حولها تغيّر إلى غير رجعة. وأن ما كان يصلح بالأمس لم يعد يصلح لليوم والغد.
لم يعد ممكناً ممارسة السياسة بعقلية إدارة الأزمات. سياسيةً كانت أو اقتصادية، طائفيةً أو اجتماعية، ثقافيةً أو مناخية. لاينفعُ هذا خاصةً في زمن الأزمات. لا تنفع مع الوقائع الجديدة الوعود والتصريحات، ولا اللجان والمؤتمرات، ولا المخططات الورقية والأرقام الكبيرة والدعاية المبرمجة والقوانين النظرية.
تغيّرت الظروف الثقافية والاجتماعية والديمغرافية داخل الوطن العربي الكبير بشكلٍ جذري، وتحديداً خلال السنوات الخمس الماضية. أصبح ثوب التفكير السياسي السائد صغيراً، وصغيراً جداً على جسد الواقع العربي المتضخم من كل ناحية. وإذا لم يوجد ثوبٌ أوسع يستوعب هذا الجسد فإن الثوب الحالي سيتمزق لا محالة. ليس الأمرُ أمرَ تفاؤلٍ أو تشاؤم، ولا علاقة للأدبيات اللفظية بالموضوع، وإنما هي قوانينُ وسنن اجتماعية تسري على الجميع، لاتحابي أحداً، ولا يمكن التعامل معها بالواسطة للهروب من مقتضياتها الملحّة.
تغيرت أيضاً معادلات العلاقات الدولية، خاصةً فيما يتعلق بهذه المنطقة في العالم. المفارقة أن هذا باتَ حقيقةً يعرفُها الصغير والكبير، لكن منطق التعامل معها يبدو مشوشاً إلى حدٍ كبير. ففي حين كان ثمة في الماضي بعض الخطوط الحمراء وبعض الثوابت، لم يعد ممكناً اليوم أن تثق بأي خطٍ أحمر. والثوابت الوحيدة الباقية هي المصالح الدولية التي صار يمكن تحقيقها عبر بدائل عديدة.. ومع التطورات الإقليمية المعقدة، واتساع دائرة اللاعبين وتنوعهم، صارت التحالفات والاتفاقيات والتعهدات لا تساوي حبر الورق الذي تُكتب عليه.
لابدّ إذاً من واقعيةٍ سياسية جديدة وحقيقية. وهي مطلوبةٌ هذه المرة من أطراف النظام السياسي العربي تحديداً. وعلى الأقل من تلك التي لاتزال فاعلةً فيه.
فعلى مرّ العقود السابقة، كان المواطن العربي هو المُطالبُ دائماً بأن يكون (واقعياً).
طُولب العربي بالواقعية منذ رحيل استعمارٍ خارجي ترك أحوالاً اقتصادية صعبة وتجزئة سياسية معقدة، لم يكن (واقعياً) معها الحديثُ عن قفزةٍ مفاجئة في إقامة النهضة، أو في تحقيق الوحدة العربية.
ثم طُولب بها عندما ظهرت القضية الفلسطينية. فكان (واقعياً) أن تُعطى الأولويةُ للمواجهة، ويتم تأجيل عمليات التنمية، أو إبطاؤها في أقل الأحوال.
وحين تبين أن ميزان القوة الدولي ليس لصالح العرب، أصبحت الواقعية تفرض القبول بالسلام وإلغاء الحديث عن حربٍ أو صراع. لكن العرب وجدوا أنفسهم محاطين بأنظمة إقليمية تملك مشاريع هيمنة وتوسع على حسابهم. فبات (واقعياً) أن ينصرف الاهتمام إلى تلك التحديات.
وفوق ذلك، جاءت مغامرات بعض أطراف النظام العربي لتزيد الموقف تعقيداً منذ أن قام نظام صدام حسين بغزو الكويت، فانقسم البيت العربي وأصبح من (الواقعي) أن تنصرف الجهود لإصلاحه.
ثم فاجأت ظواهر العنف والإرهاب والتطرف المجتمع العربي، فصار من (الواقعية) أن تكون الأولوية لمواجهة هذا التحدي الداخلي الكبير.
وفي كل مرحلةٍ من تلك المراحل، كان يُطلب من المواطن العربي، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، أن يكون واقعياً، وأن يكون صَبوراً، وأن يكون عاقلاً، وأن يكون منطقياً، وأن يكون متفهماً، وأن يُدرك ضرورة التدرج والمرحلية في كل ما يتعلق بواقعه وعلى جميع المستويات.
ويبدو باستقراء جميع المؤشرات أن المواطن المذكور قام بواجبه خير قيام. فقد انخفض سقف توقعاته إلى درجةٍ تكاد لا تُصدّق في العالم الخارجي. وتضاءلت طموحاته وأمانيه بشكلٍ ربما يستحيل وصفه.
لكن هذا المواطن انفجر في النهاية بشكلٍ باتَ معروفاً للجميع، فوصل الواقع العربي إلى حاله الراهن، وصار حجم التناقضات فيه أمراً يصعب أن تحتمله المعادلات السائدة في كل مجال.
لم تفهم التركيبة السياسية التقليدية للنظام العربي طبيعة الواقعية التي قَبلها المواطن العربي، ولم تدرك حجم التضحيات التي قدّمها على مذبح تلك الواقعية، وإلى أي حدٍ أصبح سقف الواقع نفسه هشاً بسبب ذلك. فصارت تضغطُ وتضغط على ذلك السقف من كل جانب.
ظنّت تلك التركيبة أن هذا هو الوضع الطبيعي، ولم تعرف أنه صار شيئاً فشيئاً استثناءً على كل القواعد التي تعارفت عليها البشرية وخروجاً عليها، فجاءت لحظةٌ أصبح فيها الضغط المستمر والمتنوع هو الأمر الطبيعي. بل وطغى أحياناً شعورٌ بأن إلغاء ذلك الضغط، أو حتى تخفيف حدّته، أمرٌ يخالف طبيعة إنسان المنطقة. وأن مثل هذه الممارسة هي التي ستكون المدخل إلى الفوضى. المفارقةُ / الفاجعة أن هناك من يؤمنُ بتلك القاعدة إلى الآن.
هكذا، ومن خلال تراكمات وملابسات فكريةٍ وعملية غريبة هنا وهناك في أرجاء الوطن العربي تبلورت (واقعيةٌ) خاصة، تلبَّستها قناعةٌ عميقة بأن ما يسري على تلك الأرجاء من سُنن لاعلاقة له بغيره، وأن ثمة قوانين اجتماعية وثقافية استثنائية تنطبق عليها دون غيرها في هذا العالم الفسيح.
كانت مشكلة المشاكل أن هذه الواقعية الفريدة تبلورت وبلغت تجلّيها الصارخ في لحظةٍ تاريخية لم يكن ممكناً أن تكون أسوأ بالنسبة لها. لحظة تاريخية حملت معها قمّة التجربة البشرية المعاصرة في مجالات الانفتاح والمعرفة والشفافية، وهي قمةٌ تتبلور معها واقعيةٌ إنسانيةٌ كونيةٌ مُقابلة تتناقض مع تلك الواقعية العربية الخاصة في كل شيء، وتتضارب معها من كل زاوية، وتشتبك مع كل مكوناتها بشكلٍ عنيفٍ وصارخ.
لا نعرف إلى أي درجةٍ يدرك البعض دلالات الكلام السابق على المستوى الإستراتيجي، ولا نجد حاجة للاستفاضة في شرحه. وإنما يكفينا التأكيد على أن المعادلة المذكورة قد تكون من أكثر الوصفات فعاليةً حين يتعلق الأمر بالانفجارات الكبيرة والفوضى الغامرة.
يعتقد البعض أن البيت العربي مُشتعل، لكنهم لا يدركون حجم الحريق المُنتظر في غياب الواقعية الجديدة التي نتحدث عنها. سيما وأننا لا نتحدث عن واقعيةٍ معقدة الملامح أو مستحيلة التكوين، وإنما هي واقعيةٌ لن يصعب على الباحثين عنها معرفة ملامحها وطريقة تشكيلها إذا كانوا يبحثون عنها حقاً في نهاية المطاف.