الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الوصول إلى دمشق عبر بلغراد: ‘الطرف الثالث’ إذ يستولي على السلطة في ‘المحروقة’

الوصول إلى دمشق عبر بلغراد: ‘الطرف الثالث’ إذ يستولي على السلطة في ‘المحروقة’

20.08.2013
د. عبدالوهاب الأفندي

القدس العربي
الثلاثاء 20/8/2013
لم نكن في أسوأ كوابيسنا نتخيل أن تنجرف مصر إلى السيناريو السوري بهذه السرعة. فقد تحدثنا عن ‘السيناريو الجزائري’ وحتى ‘السيناريو الصومالي’، ولكن السيناريو السوري لم يكن من الاحتمالات المرجحة عندنا. لذا نتابع بفزع متزايد تقمص القاهرة هيئة دمشق بما يذكر بتحول العذراء إلى وحش كاسر في أفلام الرعب. فخلال أيام معدودة شهدنا كيف استخدمت القوة بوحشية ‘مدروسة’ ضد المتظاهرين السلميين، وبصورة متصاعدة بلغت ذروتها في فض اعتصام رابعة العدوية. قبل ذلك وبعده شهدنا استخدام نفس وسائل الإعدام المنهجي للمتظاهرين عبر القناصة ثم الاعتداء على الكوادر الطبية والصحافية بنفس الطريقة ‘الدمشقية’ الفاقدة لكل حس أخلاقي. هكذا كانت البداية في درعا: قتل المظاهرين عمداً لإرهاب كل من يتجرأ على المعارضة.
ولم يطل الوقت بمتحدث رسمي مصري ليسارع بترديد النغمة التي سمعناها من دمشق إلى حد الملل منذ انطلاق ثورة الأطفال في درعا: البلاد تتعرض إلى حرب من قوى متطرفة و ‘تحارب الإرهاب’. وكان من المتوقع أن تنتظر القاهرة بعض الوقت قبل أن تتحفنا بلازمة ‘المؤامرة الكونية’ التي ظلت غالب قوت الإعلام الأسدي منذ أن تفكك جيشه وانقلب بعضه عليه، مفضلاً قتال المجرمين على قتل الأبرياء. ولكنها لم تمهلنا حتى لثوان معدودات. فخلال نفس المؤتمر الذي صدح فيه مغنوها بموال مكافحة الإرهاب (بلسان إنكليزي مبين، ربما لفائدة المصريين الذين لا يفهمون اللغة العربية!)، عبر المتحدث عن ما وصفه بـ ‘مرارة الشعب المصري’ تجاه تغطية الإعلام الغربي لأحداث مصر، وضم صوته إلى أصوات كثيرة تراوح بين التوسل للغرب بأن ‘يفهمنا’، وبين كيل الشتائم للدول الغربية لأنها بنظرهم تنحاز إلى الإخوان!!
ذكرني هذا بمشهدين مختلفين، لهما نفس المنطلق والنتيجة: أولهما مؤتمر صحافي للرئيس المصري الراحل أنور السادات في سبتمبر عام 1981غداة أن قرر وضع مصر كلها في السجن بعد أن فشل في إقناعها بسياساته. فقد ووجه وقتها بأسئلة محرجة عن خطل هذه السياسات الرعناء التي تعبر عن الفشل وتكرسه. ولم يجد السادات إجابة على سؤال كهذا من مراسل صحيفة ‘لوموند’ الفرنسية إلا بأن يصرخ في وجه السائل: ‘متى تفهمون أنني أفعل كل هذا من أجلكم أنتم!’ (يعني الغرب والأوروبيين). في المشهد الثاني، عبرت عن نفس مشاعر الحب المجروح قيادات الصرب في البلقان، حيث كانوا يصرخون بأن حروبهم في البوسنة وكوسوفو هي دفاع عن الحضارة الأوروبية المسيحية ضد البربرية الإسلامية: فلماذا لا تفهموننا وتساعدوننا ضد العدو المشترك؟
ولم يتأخر بشار الأسد، الزعيم المحترم المحبوب لثلاثة وعشرين مليون سوري، عن التعبير عن ألمه وتوسلاته للحبيب الغربي المتمنع: أليس هو خط الدفاع الأول عن ‘العلمانية’ والحضارة ضد التطرف الإسلامي؟ وثنى خازن بيت مال الأسرة رامي مخلوف بتوسل أكثر صراحة: أليس نظام آل الأسد وزبانيتهم هو خط الدفاع الأول عن أمن إسرائيل، ولو سقط فلن يكون لها أمن؟
وإذ تتحول مصر بسرعة إلى صربيا جديدة (مع الفارق بأن قبطان صربيا إلى هلاكها وذلها السيد ميلوسوفيتش كان يتمتع بدعم شعبي لا يحلم به المتشبهون به في مصر ‘المحروقة’) قبل أن تلحق بسوريا، فإن أعراض ذاك المرض الفتاك بدأت تظهر عليها بوضوح. فكما حدث في صربيا، احتشدت جموع يوحد بينها سم الحقد القاتل ضد من يطالب بحقه في الحرية والأمن في وطنه، والتفت حول قيادات ديماغوجية تصور لها أحلام المجد والمستقبل الوردي في سفك الدماء وقمع الأبرياء. سكرت الجموع بهذه الأساطير، وتابعت الجيش الصربي المغوار في غزواته التي آلت إلى نهايتها المعروفة، جالبة الخزي والعار والهزائم.
المفارقة هي أن الصرب -وهم من أكثر من اكتوى من نيران الفاشية والنازية- كانوا يصورون غزاوتهم الصليبية ضد جيرانهم من المسلمين والكروات بأنها استعادة لنضالهم المرير ضد النازية. ولكن ممارسات الصرب كانت أقرب إلى ممارسات هتلر منها إلى القيم التي سادت أوروبا والعالم بعد هزيمة النازية، وجسدتها مواثيق الأمم المتحدة. فهذه القيم والتاريخ الذي ولدها تجعل المجتمعات الحديثة شديدة الحساسية تجاه مثل تلك الممارسات، وتولد ردة فعل تلقائية رافضة لها.
هذا ما لم يفهمه السادات، ولم يفهمه الصرب وقتها، ولم يفهمه حكام مصر الجدد وبطانتهم من المصفقين. فالقوم سادرون في غي وسكر من أوهام تصور لهم أن الفتك بالأبرياء بطولة، ومعاقبة من كسب الانتخابات على شعبيته تجسيداً للديمقراطية. وهم في غيهم هذا يصبون جام غضهم على وسائل الإعلام التي لا يسيطرون عليها هم ومناصروهم في إمارات الخليج، ويرون في كيل الاتهامات لها بديلاً عن النظر إلى المرآة حتى يروا وجوههم وهي تكتسي مسحة دراكولا مصاص الدماء. فالغرب الحبيب المتمنع لا يفهم أن إزاحة النظام الديمقراطي بالقوة ليس انقلاباً، ولا يتفهم ضرورة قتل المدنيين حتى يرتدع الإرهابيين (مع أن تعريف الإرهاب هو قتل الأبرياء لإرهاب بقية المجتمع).
لا يرى هؤلاء أن مصر السيسي وأنصاره الذين استخفهم فأطاعوه هي ظاهرة فاشية بامتياز، تفيض بحقد مخيف وفزع يائس. وكما حدث في صربيا ورواندا، ويحدث اليوم في سوريا، وقبل ذلك في ألمانيا النازية، فإن مثل هذا الحقد السام الفتاك هو جحيم لا يطفئه إلا شلال عظيم من الدماء، ونار تحرق أصحابها وتهري أكبادهم قبل أن تمس ضحاياهم، وتبقى تفري قلوبهم لحقب طوال بعد أن يذوق ضحاياهم طعم السلام الأبدي. ولا يجدي مع هذه العلة وعظ واعظ ولا تحذير نذير مشفق، حتى يبلغ الكتاب أجله ويقضي الله أمراً كان مفعولاً. ولا عبرة هنا بكثرة من يحمل هذا الحقد، فقد كان عباد كل من هتلر وفرعون هم الأغلبية، ولم يعصمهم ذلك من عذاب ربك.
ومن حكمة الله تعالى أن هذه الفئة الناس من الناس تعاقب نفسها بنفسها عبر هذا الحقد الذي يحرقها مثل نار تلظى، وعبر التخلص بصورة منهجية لا فكاك منها عن كل شبهة فضيلة. فعند البداية، تكون لهذه الفئة شعارات براقة تجذب البعض (مثل التحدث عن عظمة ألمانيا وحضارتها والتنادي إلى شروط نهضتها، أو التغني بتاريخ الصرب وتضحياتهم ومجدهم، أو التفاخر بأمجاد العروبة، أو التعبير عن أشواق ديمقراطية وقيم ‘ليبرالية’). ولكنها سرعان ما تتجرد من لوازم هذه الدعاوى إذ توغل في الإجرام. ثم يسوقها الإجرام إلى ما هو أبشع منه، حتى تفقد إنسانيتها فتكتمل مقومات هلاكها وتسقط كل الأقنعة. وحين يأتيها ذلك المصير، تكون كراهيتها انقلبت عليها فأصبح العالم كله يكرهها. فكما جاء في القرآن عن فرعون وجنوده: ‘فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين’.
وفي مصر ‘المحروقة’، بدأ الأمر بتحالف بعض من زعموا أنهم يحاربون استئساد الإخوان بالأمر في مصر (وهي تهم باطلة، لأن الإخوان كانوا ضيوفاً على الدولة وجيشها ومخابراتها وشرطتها وقضائها وإعلامها) مع فئات من البلطجية ومحترفي الإجرام ممن شهد الجميع بإثمهم وشرهم. فكان هؤلاء يقدمون مظاهرات خصوم مرسي من أدعياء الديمقراطية كما يقدم فرعون قومه يوم القيامة فيوردهم النار وبئس الورد المورود. ويرتكب هؤلاء من الجرائم ما يندى له الجبين من حرق وقتل وقنص، ليس فقط تحت سمع الشرطة وبصرها، بل تحت سمع وبصر العالم أجمع. والحمدلله على نعمة الكاميرات التي تذكرنا بأن هناك تكنولوجيا سماوية سابقة على كل هذا لا تترك كبيرة ولا صغيرة إلأ أحصتها في كتاب مرقوم. وقد دأب أولئك ‘الديمقراطيون’ على إطلاق تسمية ‘الطرف الثالث’ على هذه الفئة الإجرامية، وهو إسم الدلع لفئة مجهولة معلومة اختار البعض التغابي عنها وهم يعلمون.
في مصر اليوم، أصبح ذاك ‘الطرف الثالث’ هو الطرف الأول اليوم، حيث تسنم قمة السلطة. سفر ‘البلطجية’ عن وجوههم فإذا بهم رجال الأمن ومخبريهم وتوابعهم ممن يقبضون رزقهم من دافع الضرائب المصري الذي ذاق بأسهم إذلالاً وتقتيلاً وتدميراً للمؤسسات. هؤلاء القوم يصولون اليوم ويجولون في خيلاء فرعون وجنوده، وهناك من يحملهم على الأكتاف ويفخر بإنجازتهم كل ما أنهوا غزوة جديدة ضد مدنييين عزل كل ذنبهم أنهم أووا إلى مسجد أو تظاهروا في ميدان. ولم يعد هناك سر، ولم تخف بعد خافية. لقد أصبحت المحروسة/ المحروقة اليوم هي ‘جمهورية البلطجية’ كما أمست سوريا الجريحة قبلها ‘جمهورية الشبيحة’. الآن حصحص الحق، وغابت كل شبهة، وصدق وعد الجبار الحليم في إنفاذ إرادته في أن يميز الخبيث من الطيب ثم يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه في جهنم.
وكنت قد حذرت في مقالة الثلاثاء الماضي من رحب بانقلاب مصر من ‘المنزلق الخطير’ الذي سبقهم إليه انقلابيو السودان وأدى إلى كارثة دارفور وانقسام البلاد ومصائب أخرى لا تحصى. وقد طالبت عندها القوم بأن ‘يسارعوا بالخروج من قاع البئر، لا إلى الغوص أكثر في المستنقع.’ ولم يكد يجف حبر المقال حتى كان الجميع قد غاصوا حتى الركب في مستنقع الدم. وكما حدث في سوريا، فإن حكومة البلطجية تعتقد أن باستطاعتها إرهاب الخلق على طريقة زياد ابن ابيه حتى يقول قائلهم: ‘انج سعد فقد هلك سعيد!’ وقد نسي هؤلاء خطأ دكتاتور سوريا الذي قتل أكثر من مائة ألف نفس وشرد نصف سكان البلاد ودمر كل ما فيها، ولم يركع له إلا عبدة الأصنام إياهم ممن ارتضوا الذل واشتروه. أما أحرار سوريا فما زالوا يرددون: ‘الموت ولا المذلة.’ وليس أحرار مصر بأقل شجاعة من أحرار سوريا، ولا قتلة مصر بأجرأ على سفك الدماء من جلادي دمشق، وإن كان من العدل أن نعترف بأن هؤلاء قد سفكوا في يوم واحد ما يحتاج جزار سوريا إلى شهر كامل لإنجازه. فهنيئاً لهم هذا التفوق!
أما لسان حال القوم فيردد مقولة ماكبيث الشكسبيري: ‘هل تستطيع كل محيطات نبتون أن تغسل هذا الدم من يدي؟ كلا، بل إن يديّ هاتين ستلونان بحار العالم الزاخرة، محولة الأخضر منها إلى الاحمرار.’
وهذا أيضاً حال ألسنة الكذبة من سحرة فرعون الذين يبدأون بإنكار أن أي شخص قد قتل، ثم يثنون بان عدد القتلى قليل لا يكاد يذكر، قبل أن يؤكدوا بعد ذلك أن من قتل لم يكن بريئاً، بل كان مستحقاً للقتل، وهم على كل حال المتسببين في قتل أنفسهم. فهذه أيضاً ألسنة لا تغسل رجسها بحار الدنيا.
 
‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن