الرئيسة \  واحة اللقاء  \  انتخابات مصر وسورية بين الصراع والنزاع

انتخابات مصر وسورية بين الصراع والنزاع

09.06.2014
حسن شامي



الحياة
الاحد 8/6/2014
المطر الانتخابي المنهمر، بغزارة غير معهودة، على بلدان الربيع العربي، يفيض كثيراً عن منطق اللعبة الانتخابية. ويصح القول إنه يقلّ كثيراً عن معنى الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. وهذا يجيز لبعضهم الاعتقاد بأن سنونوات الربيع العربي ضلت طريقها أو أخطأت في تقدير الفصل الموعود. ولا غرابة في الأمر، فنحن في زمن يزدهر فيه الضلال والضالون وفاقدو البوصلة.
تجري الأمور كما لو أن الخروج من الدوامة يفضي إلى الفوضى والمتاهة، وكل ما يشتق منهما. سنسارع إلى القول إن الزيادة والنقصان مقيمان في صورة السلطة كما صنعتها ولا تزال فئات حاكمة أو طامحة إلى الحكم من دون الاحتكام إلى مرجعية حقوقية مشتركة. في خلفية هذا الاضطراب خلط بين فكرتين شائعتين نشكك في ارتسام حدود للتمييز بينهما: الصراع والنزاع. ما جرى ويجري أمام أنظارنا، في مصر وسورية تحديداً، ليس سوى تمرين متنوع على الخلط بين الصراع والنزاع. وثمة مزيج من الدهاء والصلافة والابتذال في لعبة الخلط هذا، ما يرشحه للتفاقم والاتساع.
حصلت في مصر انتخابات رئاسية على مقاس المرشح الفائز سلفاً، أي الفريق عبد الفتاح السيسي. فالرجل استند إلى احتجاجات شعبية على حكم الرئيس محمد مرسي المنتخب ديموقراطياً في ظل صراع مكشوف ومعلن على السلطة وعلى الدولة في آن. من هذه الاحتجاجات استمد السيسي شرعية شعبية تخوله القيام بانقلاب على مرسي وعلى حزب "الإخوان المسلمين" بعد تصنيفهم منظمة إرهابية. بعد عام واحد على حكم مرسي وأخطائه الكثيرة نجح السيسي في تحويل الصراع معه، وهو صراع مؤهل لأن يكون سلمياً، إلى نزاع مكشوف شبه أهلي تخللته مواجهات أدّت إلى سقوط قرابة ألفي قتيل واعتقال أكثر من 15 ألف شخص وصدور أحكام بإعدام مئات من أعضاء "الإخوان".
الحالة المصرية مدوخة ليس فقط بسبب تعاقب جارف جعلها تعرف خلال أقل من ثلاث سنوات ثلاثة رؤساء، بل كذلك بسبب رقصة الأرقام الانتخابية التي تشبه الرقص المحموم لطرد الشياطين والأرواح الشريرة المتنقلة. حصل السيسي على نحو 97 في المئة من أصل 44 في المئة من المقترعين فيما يشكك كثيرون في صحة هذه النسبة ويخفضونها إلى نصفها، ما يعني أن المقاطعة كانت أكبر من المتداول رسمياً.
لا نعلم أين وكيف تبخّرت نسبة العشرين في المئة التي نالها حمدين صباحي في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الحقيقية التي تنافس فيها، على الأقل، أربعة مرشحين كبار. اعتراف صباحي بهزيمته على رغم طعنه القانوني ببعض وجوه الانتخابات، لا ينتقص من قيمة السؤال. في المقابل يمكن تفسير الفارق الملحوظ بين أول انتخابات تشريعية حصد فيها الإسلاميون وحدهم ثلاثة أرباع الناخبين وأرقام الانتخابات الرئاسية التي منحت مرسي أقل من ربع أصوات الناخبين. هناك بالطبع احتدام التنافس داخل صفوف الإسلاميين، وهناك اختلاف المزاج الاقتراعي تبعاً لطبيعة الاقتراع ورهاناته، وهذا أمر معروف في سوسيولوجيا الانتخابات. وهناك أيضاً إعادات النظر التي يمليها حراك متصل وصاخب مع كل ما يحمله من آمال ومخاوف ورغبات في الانكفاء على الأمن والاستقرار، خوفاً من المجهول. قصارى القول إن وقائع الفوز المعلن للسيسي، قبل إجراء الانتخابات، تدل على أن المطلوب إدارة نزاع مفتوح مع ظاهرة متجذرة وحمّالة أوجه في البيئة الإسلامية المصرية الحديثة، أي "الإخوان". ولا بأس، وسط هذه المعمعة، من تأديب عدد من الناشطين اليساريين والليبراليين المستقلين. فهؤلاء طوباويون أكثر من اللازم ويجدر بهم أن يتخففوا من أحلامهم الثقيلة بالعدالة الاجتماعية، وفق ما ينصح فقهاء واقعية سائدة بمقدار ما هي مفروضة فرضاً بمقتضى الموقع المصري الوازن والحساس عربياً وإقليمياً ودولياً. وهذا بالضبط ما يحمل الدول الوازنة على الإقرار بشرعية الانتخابات الأخيرة ونتائجها تمهيداً للتعامل معها.
في الحالة السورية يرتفع، بطبيعة الحال، منسوب الدهاء والصلافة. وقد بدا لكثيرين تنظيم الانتخابات وإجراؤها مشهداً سوريالياً رهيباً، أي يفيض عن الواقع فيضاً مرَضياً. وهذا الفائض من استعراض الولاء يأتي للتعويض عن نقص في شرعية السلطة والانتخابات التي حصلت في المناطق التي يسيطر عليها النظام، ومن ضمنها مدن كبرى أو أجزاء منها. فليس هناك تطابق بين المساحة الجغرافية التي تسيطر المعارضة المسلحة على نصفها تقريباً وبين أعداد الناخبين المفترضين. والأرجح أن النظام عوّل، بمكره المعهود، على هذا التشخيص لإقناع القاصي والداني بأن نسبة المشاركة التي ناهزت 74 في المئة ليست محض اختلاق. ولا يعود مستغرَباً أن يحصل بشار الأسد على نسبة 88.3 من الأصوات وفق النتائج الرسمية التي أعلنها رئيس مجلس الشعب. بل يبدو أن النظام قدّم تنازلاً ملحوظاً لمجرد القبول بحصول المرشح الفائز حكماً على أقل من 90 في المئة، وبحصول منافسيه المغمورين على نسب يصل مجموعها الحسابي إلى مليون صوت، ويضاف حوالى نصف مليون صوت مبطل.
يحصل هذا الاستعراض في ظل حرب معلنة وأهلية تتواصل فصولها الدامية، المثقلة بالدمار والقتل والخطف والنزوح، منذ أكثر من ثلاث سنوات. نعم، يمكن توصيف الأشهر الأولى للحراك الاحتجاجي السوري بأنه صراع سلمي ومدني مع سلطة استئثارية وسلطانية محدثة. غير أن هذا الصراع سرعان ما تحول نزاعاً مسلحاً ومكشوفاً، يصعب الفصل فيه بين الثقل الداخلي للاحتجاج الشرعي وبين النزاع الدولي والإقليمي على موقع سورية في صراعات المنطقة ونزاعاتها.
ستظل الصفة الشرعية لانتخاب الأسد مادة سجال بين مؤيدي النظام والداعين إلى إسقاطه. وإذا استثنينا فئة المعارضين الديموقراطيين المتمسكين بمقدار من الاستقلالية والثوابت الوطنية، يكاد السجال أن يكون نزاعاً بين مكرين، ما يحوّل سورية حقل تجارب على البشر والحجر: صلافة ضد صلافة. إشهار النظام لفوز مرشحه لن يعفيه من كلفة التوصل إلى حل سياسي لا يكون الوجه الأمني عنوانه الوحيد. ويفترض، في المقابل، أن تقوم المعارضة بمراجعة نقدية لسياسة بدّدت فرص استقلال القرار السوري، وسمحت بخصخصة النزاع وتدفّق جهاديين وتكفيريين لا يتركون محلاً لأي صيغة صراع سلمي.